يبدو أنّ سلمان رشدي (1947) الذي خسر إحدى عينيه بعد تعرّضه لمحاولة اغتيال (مُستنكرة) قبل عامين تقريباً عبر الطعن بالسكين (الأخبار 15/8/2022)، قد فقد بصيرته كلياً. عينٌ واحدة متبقّية للأديب البريطاني من أصل هندي، أساساً لا يحتاج إلى غيرها، فنظرته إلى شؤون العالم وسياساته دائماً ما رأت النصف الممتلئ من الكأس؛ الجزء الذي تتعطش أعين الغزاة المُستعمرين إلى شربه. قبل يومين، أطلّ رشدي في حلقةٍ على بودكاست ألماني بعنوان «أماكن وكلمات»، وأطلعنا على آرائه تجاه ما يحدث في غزة، ومن العين اليمنى التي يرى منها، نظر إلى الحرب الحاصلة بنظرةٍ «ظلامية»، تنافي جوهر الأدب وتشذّ عن «حساسية» الأديب. لا علاقة لغياب العين الثانية في الظلام هنا، إنها نظرة سلمان رشدي الأيديولوجية الشديدة القتامة، تذكّرنا بحال العصور المظلمة، عندما كانت إراقة الدماء هي الحلّ كلما أرادت «العامّة» التحرّر من سلطة السيف. سلمان رشدي، كما يستخلص الواحد من أقواله، يفضّل استمرار الإبادة التي تُمعن فيها إسرائيل بحق المدنيين على وقف الحرب. أي لا يمانع رشدي إطالة أمد المجزرة على تشكيل حكومة فلسطينية، لأن في نظره، إنّ «تشكيل حكومة فلسطينية يعني تولّي «حماس» للدولة الفلسطينية وسنكون أمام قيام دولة شبيهة بطالبان».
رأى أنّ «فلسطين حرة تصبح إشكالية عندما تنحدر إلى معاداة السامية وإلى دعم حماس»

توصيف الروائي بالإسلاموفوبيا، والدخول من باب هذا المصطلح إلى غرف المعاني وما تجرّ وراءها مثل خطاب الكراهية، وتحقير الآخر، والفصل العنصري... لا يُجدي نفعاً مع رشدي المصاب «بصداع هنتغتون» (وفقاً لصامويل هنتغتون)، أي بنظرية صراع الحضارات، وهي رؤية رجعية تقسّم العالم وفقاً «لإثنية ثقافية»، إذ هناك مجموعة «متفوّقة» شجاعة (الغرب) وأخرى «همجية» متخلّفة («الآخرين»). قفز رشدي فوق الإسلاموفوبيا منذ ردحٍ من الزمن؛ منذ مزايدته على رئيس الوزراء البريطاني السابق طوني بلير و«أصدقائه» الغربيين حين كانوا يستعدون لغزو العراق، عندما صرّح لـ «التليغراف» آنذاك عن موقفه «الشيطاني» قائلاً: «إنهم مخطئون في اعتبار أن الحرب ليست على الإسلام وإنما على الإرهاب فقط». المنتمي إلى «حضارة التفوّق»، أشهر في مقابلته الأخيرة، عن صهيونيته الدنيئة، عبّرت عن نفسها باستعلاءٍ يتماهى مع التعجرف «الإنكليزي» (مكان إقامة رشدي) المقيت، تلك النزعة التي اشتهر بها صنف من البريطانيين ممّن صدقوا أنّ مكانتهم «راقية»، وأنهم يتفوّقون على بقية «الشعوب»، تعجرف تجلّى في استعمارهم، وفي أبطالهم، وفي أدبياتهم كذلك، ولم يمح أثره. إذا أراد واحدنا تقفّي هذا الأثر، فسيجد سلمان رشدي.
النظر ـــ كما فعل رشدي ـــ إلى الذين يقاومون في غزة على أنّهم «ضد الإنسان» لأنهم على نقيض الديموقراطية الليبرالية، ليس استعلاءً فقط، بل انحطاط ديكتاتوري. تباهٍ جوهراني. عماء. والمسألة «الإنسانوية» هذه باتت أقرب إلى دعابة بائخة مع من يرى مجرمين، كبلير وبوش بوصفهما مخلصين، وأنّ علّة وجودهما تكمن في تحقيق فضائل مثل «الحق» و«الجمال». نقاش يهدر الوقت. أما اعتبار حركة «حماس» كحركة «طالبان» باعتبارهما تياران ينتميان إلى الإسلام السياسي، وبالتالي، إنّ الإسلام السياسي واحد، لهو قصور معرفيّ: كمن يضع على ميزان القياس النملة والفيل معاً ويساوي بينهما. لكنّ شمولية التعاطي مع المسائل، وفرض «النموذج» فرضاً حتى ولو كانت المجزرة هي الوسيلة، فهذا من سمات «الظلامية» التي لا تكتمل من دون صناعة الخرافة وقصص الرعب. ينتقل سلمان رشدي الذي أفصح في مقابلته عن أنّ «فلسطين حرة تصبح إشكالية عندما تنحدر إلى معاداة السامية وإلى دعم حماس» من الواقعية السحرية، أسلوبه الأدبي المُعتاد، إلى ما يشبه محرراً رديئاً يعمل في إحدى وسائل الإعلام الخليجية. وفي غرف التحرير هذه، نعلم أنّ الخط التحريري لا هو بتحرير المعلومة من عوائق وشوائب، ولا يعرف الحرية أساساً، بل هو تقييد وتكبيل وغسل عقول؛ بروباغندا تعدو كونها مبالغة، توَظّف بغية إثارة الارتياب والخشية، أو: تزويد «المتفوّق» بصورة عن العدو الحاضر في النصف الثاني من العالم. ولرسم ملامح الأخير فهذا بحاجة إلى (خيال) الأدباء.
رأى أنّ تولّي «حماس» للدولة الفلسطينية يعني قيام دولة شبيهة بـ «طالبان»


سلمان رشدي يفكر نيابةً عن الإسرائيليين عمّا سيكون عليه «اليوم التالي» (حال غزة بعد الحرب). عليه إيجاد عدو جديد بأسرع وقت. الشرط الأساسي هو البند المتعلق بضرورة استمرار صراع الحضارات. حسناً قال، وجدت لكم «بعبعاً» يتوافق مع معاييركم/ معاييرنا المطلوبة. لم يقم الروائي بأي جهد، مواد التحضير جاهزة ينقصها فقط مقدار معيّن من البهارات. صقَلَ سلمان رشدي صورة «الهمجيّ»، ثم رشّ الكثير من بغضه تجاه الإسلام، خلطهما سوياً، وأعلن: هناك احتمال «وجود» من هو أكثر وحشية من إسرائيل. لا تُسهم تصريحات سلمان رشدي في بث الإشاعة وترويج الدعاية بغية إنقاذ إسرائيل التي يخشى ــ كما يظهر ـــ على مستقبلها فقط، بل إنه يدعم إسرائيل في قتل هؤلاء الذين يكرههم بشدّة. خلافاً لفاوست، لم يعقد سلمان رشدي صفقة مع الشيطان، بل تقمّصه.
خريطة جديدة نشأت مع السابع من أكتوبر. جزء من هذه الخريطة متعلّق بأماكن داكنة، مخفية داخل النفس البشرية. على أحدنا دراسة أدباء المنفى (ليس أدبهم) في القرن الحادي والعشرين. اتضح أنّ معظمهم مفتونون بالقتل، بدءاً من تصديقهم لسردية بقر بطون الحوامل وصولاً إلى انحيازهم إلى من يقتل لمجرّد القتل.