تقرير غولدستون مرة جديدة تحت الأضواء، من بيروت أعلن أمس عضوان من بعثة التحقيق الدولية أن الحصار استمرار للحرب على غزة، وأن الانتهاكات الإسرائيلية ضد المدنيين لا يجوز أن تبقى بلا محاسبة، وأن المجموعات المقاومة ليست إرهابية. يأتي هذا الكلام بعد العدوان الإسرائيلي على أسطول الحرية لكسر الحصار
بيسان طي
«بعد ما رأيته خلال عمل اللجنة في غزة، وبعدما تيقنت من ظروف الحياة في القطاع، لا أستطيع أن أعيش هناك، ولا أسمح لأولادي بأن يعيشوا هناك، بل لن أسمح لأي مخلوق بأن يعيش هناك. لا أعرف إن كانت إسرائيل تدرك ما ارتكبته»، كان وقع كلمات الكولونيل الإيرلندي ديزموند ترافيرس كالصاعقة أمس في أوديتوريوم الويست هول في الجامعة الأميركية، خلال لقاء مثّّل محطة توثيق جديدة للانتهاكات الإسرائيلية للقوانين الدولية ولحقوق المدنيين خلال حرب غزة. اللقاء ضم ترافيرس والمحامية الباكستانية هيلاني جيلاني، وهما عضوان من بعثة غولدستون لتقصّي الحقائق بعد الحرب الإسرائيلية على غزة.
لبعض الوقت، بدا معظم الحاضرين في الأوديتوريوم مشغولين بسؤال «وماذا بعد تقرير غولدستون؟»، لكنّ حال الترقب انتهت بسرعة. جيلاني، المحامية لدى المحكمة العليا الباكستانية، تحدثت عن عدم احترام إسرائيل للقرارات الدولية، وهذا الانتهاك لا ينتجه نظام الأمم المتحدة، بل النهج السياسي الذي يسمح لإسرائيل بذلك. وقد أكدت لـ«الأخبار» أنها «على اقتناع بأهمية المنظمة الدولية. ففي حالات متنوعة، أدّت تقارير اللجان التي اعتمدتها إلى ملاحقة منتهكي حقوق الإنسان أمام محاكم مختصة».
وقد بدت جيلاني، خلال اللقاء، متفهمة للآراء القائلة بتراجع ثقة العرب بقرارات الأمم المتحدة أو تقاريرها حيال الانتهاكات الإسرائيلية، لكنّ أهمية التقرير بالنسبة إلى جيلاني تكمن في أنه وثّق الانتهاكات خلال الحرب على غزة، وأنه لا يمكن أن يُمحى من السجل العالمي.
ترافيرس لا يمكن أي مخلوق أن يعيش في غزة. هل تدرك إسرائيل ما الذي فعلته بالقطاع؟
اللقاء مع المحامية الباكستانية والكولونيل الإيرلندي حصل بعد ظهر أمس بدعوة من مؤسسة عصام فارس، ويمكن تلخيصه بأنه كان مختلفاً عن اللقاءات التي كانت تعقد مع ممثلين للجان اعتمدتها المنظمة الدولية. بدا المتحدثان شديديْ الوضوح من حيث إدانتهما لانتهاك إسرائيل للقانون الدولي وللمعاهدات الدولية بشأن حقوق الإنسان خلال الحرب على غزة، وخلال الحصار المفروض على القطاع الفلسطيني. فرداً على بعض المداخلات بشأن الرغبة الإسرائيلية المستمرة في السيطرة على أراض فلسطينية بعد «تجريدها» من السكان، تحدث ترافيرس عن الحياة التي باتت مستحيلة في القطاع بفعل الحصار الإسرائيلي والحرب.
أحد الحاضرين علّق على المجموعات المقاومة، وطرح السؤال: هل يتضمّن القانون الدولي تعريفاً واضحاً للمجموعات الإرهابية، فكان ردّ الكولونيل الإيرلندي «كان جدّي يسمّى إرهابياً، وقد حرر وطني وصار بطلاً»، مردفاً أنه «لا يرتاح إلى الاستخدام العشوائي لعبارة إرهابي التي تزخر بالمعاني السياسية»، مشدداً على «الإرهاب الذي تمارسه دول». ثم ردّد ما قاله له شرطي إن «الإرهابي هو من يستمر في استخدام القوة الجسدية أو العنف، فيما الوسائل الدبلوماسية متاحة».
اللقاء في الجامعة الأميركية كان عنوانه «تقرير غولدستون»، والهدف منه إقامة نقاش حول التقرير، الذي صدر في 23 أيلول 2009، وهو «تقرير بعثة الأمم المتحدة لتقصّي الحقائق بشأن النزاع في غزة». ففي 3 نيسان 2009، أنشأ مجلس الإنسان في المنظمة الدولية البعثة لـ«التحقيق في جميع انتهاكات القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي التي تكون قد ارتُكبت في أي وقت في سياق العمليات التي جرت في غزة من 27 كانون الأول 2008 إلى 18 كانون الثاني، سواء ارتُكبت قبل هذه العمليات أو أثناءها أو بعدها». عُيّن ريتشارد غولدستون رئيساً للبعثة، وهو القاضي السابق في المحكمة الدستورية لجنوب أفريقيا والمدّعي العام السابق للمحكمتين الجنائيّتين الدوليّتين ليوغسلافيا السابقة ورواندا. الأعضاء الآخرون هم كريستين تشينيكين أستاذة القانون الدولي في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، وكانت عضواً في «البعثة الرفيعة المستوى لتقصّي الحقائق» الموفدة إلى بيت حانون عام 2008، وجيلاني كانت عام 2004 في لجنة التحقيق الدولية المعنية بدارفور، وترافيرس ضابط سابق في قوات الدفاع الإيرلندية وعضو مجلس إدارة معهد التحقيقات الجنائية الدولية.
منظّمو اللقاء أمس أعلنوا أنه تعذّر حضور غولدستون وتشينيكين، فيما قال بعض المطّلعين لـ«الأخبار» إن هذا الغياب سببه الضغوط التي يتعرّض لها كلّ من رئيس اللجنة والعضوة البريطانية في بلديهما بسبب التقرير.

«مسخرة تاريخية»

رفضت إسرائيل ما جاء في تقرير غولدستون، وقد وصفه الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز بأنه «مسخرة تاريخية». لكنّ المتابع لمسار البعثة سيتنبّه إلى أن المشكلة الأبرز التي واجهتها تمثّلت في رفض إسرائيل التعاون معها، ما عرقل عملية جمع بعض المعلومات واللقاء مع مشاركين أو معنيين مباشرة بالحرب على غزة، وبمدنيين إسرائيليين عدّهم أعضاء البعثة «ضحايا» لهذه الحرب، و«مثّل الرفض نوعاً من الضغوط أو المشاكل التي واجهتها البعثة»، وفق ما قالت جيلاني لـ«الأخبار». الموقف الإسرائيلي أدى أيضاً إلى عرقلة وصول البعثة إلى غزة، فجرى الانتقال إلى القطاع عبر الحدود المصرية. من العوائق التي خلقها الرفض الإسرائيلي عدم إمكان «الالتقاء بأعضاء السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية»، فاجتمعت ببعض المسؤولين في عمان. في المقابل، «قدم مسؤولون كبار من سلطات غزة تعاونهم ودعمهم الكاملين للبعثة».
جيلاني: واقع استمرار الاحتلال الإسرائيلي لغزة مثبت قانوناً
ما هي العقيدة أو الأيديولوجيا التي استندت إليها إسرائيل في حربها على غزة؟ الكولونيل ترافيرس راجع العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006، وذكّر بمنهجية تدمير الضاحية الجنوبية لبيروت، ثم تحدث عن مقال نُشر في وسائل الإعلام الإسرائيلية عام 2005 عن «القتل الوقائي»، ومثّل ركيزة أيديولوجية في الحرب على غزة، حيث تعطى الأولوية للحد «من الضحايا بين المقاتلين الإسرائيليين»، واعتبار الإسرائيلي «أهم من احترام حقوق الإنسان غير الإسرائيلي». وفق هذه العقيدة، «فإن الجندي يحمي إسرائيل، ومن يعمل في مكافحة الإرهاب يحمِ بلده ويعرّض نفسه للخطر». أخطر ما في هذه الأيديولوجيا هو «غياب أي نقد لها، وغياب النقاش الموثّق بشأنها» كرر ترافيرس. أما الانتقادات التي توجّه إلى إسرائيل باعتبارها تنتهك ما تنص عليه اتفاقية جنيف لحماية المدنيين خلال الحروب، فإن ثمة رداً إسرائيلياً عن استخدام منتقديها «للاتفاقية لمقايضة حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها» (!).

الحصار استمرار للحرب

توقف الكولونيل الإيرلندي عند انتهاكات ارتكبتها إسرائيل خلال الحرب على غزة، كإجبار مدنيين على اللجوء إلى مبنى ما ثم قصفه، ثم إطلاق النار على الناجين الهاربين منه. وتحدث عن استخدام أنواع من الأسلحة قد لا تكون محظورة دولياً، ولكن يُسمح بها ضمن قواعد لم تحترمها إسرائيل. ثم لفت إلى الآثار السلبية المتجددة لبعض الأسلحة التي استخدمت ضد سكان غزة، ومنها الفوسفور الأبيض. وقال إن 90 في المئة من الذخيرة التي استخدمها الجيش الإسرائيلي في الحرب على غزة موجهة عن بُعد، ما يعني أنه كان يمكن تفادي قتل المدنيين.
المتحدثان في اللقاء اتفقا على أن الحصار المفروض على غزة استمرار للحرب على القطاع. ترافيرس قال إنه «لم يعد في الإمكان التحدث عن اقتصاد قائم أو قطاع زراعي في غزة، ومعظم النشاطات المنتجة انقرضت». أما جيلاني، فتوقفت عند واقع الاحتلال الإسرائيلي لغزة، وذلك مثبت وفق القوانين الدولية. فغياب الحضور الجسدي للمحتل لا يعني تحرّر القطاع منه، لأن مستوى الرقابة الإسرائيلية كبير جداً، فهي التي تتحكم في الموارد المائية وتسيطر على «الفضاء الجوي لغزة»، كذلك تسيطر إسرائيل على سجلات السكان وعلى حركة البضائع إلى القطاع.
وفي هذا الإطار، شددت المحامية الباكستانية على ضرورة أن تُمارس ضغوط دولية لإنهاء الحصار المفروض على غزة، ولكنها لفتت إلى أن اقتصاداً أسود قد نما من خلال الأنفاق التي حُفرت بسبب الاحتلال والحصار، وبعد انتهائه سيصعب القضاء «على هذا الاقتصاد الأسود، وهذا الأمر سيضرّ بعملية تعافي الاقتصاد في القطاع».
قالت جيلاني إن على الدول والمجموعات المقاومة أن تلتزم بما ينص عليه القانون الدولي. وحين سُئلت عن أفعال إرهابية قد تأتي بها المجموعات المسلحة، ردت بأنها على اقتناع بضرورة محاسبة الإرهاب، ولكن «ما قامت به المجموعات المقاومة لا يجعلنا نسمّيها مجموعات إرهابية».

أسطول الحرية

في حديث مع «الأخبار»، شدّدت جيلاني على ضرورة تنفيذ توصيات تقرير غولدستون. وبدت غير مقتنعة بالسياسات التي تجعل إسرائيل بعيدة عن المساءلة والمحاسبة، وتكلمت عن ضرورة إحالة ملف الانتهاكات الإسرائيلية على محكمة دولية متخصصة.
تحدثت جيلاني أيضاً عن الاعتداء الإسرائيلي على «أسطول الحرية»، وأكدت ضرورة تأليف لجنة تحقيق دولية لتقصّي المعلومات، وبعد ذلك يرفع التقرير إلى منظمة الأمم المتحدة. ومع ثبوت الانتهاكات ضد المدنيين، يمكن إحالة الملف على محكمة مختصة، كمحكمة الجزاء الدولية، أو محكمة أخرى، وفق ما تبيّنه تقارير اللجنة المختصة.