لماذا وصفت اسرائيل انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية اللبنانية بأنه خسارة لها؟ هل فعلاً مسألة تفاهمه مع حزب الله، هي السبب؟ هل يحدث هذا الرجل حقاً تغييراً في حسابات المحاور الإقليمية والدولية المحيقة بالكيان الصهيوني؟ هل تتوقع تل أبيب مثلاً أن يتم، خلال عهد رئاسي واحد، بناء جيش لبناني قادر على إقامة توازن استراتيجي تقليدي مع جيش عدوانها، أو كسر قاعدة الرعب والردع التي كانت تفرضها على لبنان؟ أم ثمة حسابات أخرى أكثر عمقاً وبنيوية، دفعت إلى تكوين هذا الانطباع الاسرائيلي الإعلامي والسياسي العام، بأن 31 تشرين الأول 2016 في بيروت، ورغم تهريج واحد أو اثنين من نواب لبنان، كان هزيمة لصالحه سجلها في حساب اسرائيل الوجودي؟ذلك أن لبنان شهد في العقدين الماضيين وصول رؤساء للجمهورية، قريبين جداً من حزب الله. الرئيس إميل لحود كاد يصطدم بقوى لبنانية مؤثرة، دفاعاً عن سلاح المقاومة. حتى ميشال سليمان، قبل فترة قليلة من تبني أحد الأطراف السياسية ترشيحه لرئاسة الجمهورية، كان ينظم من الجنوب قصائد مدحية للمقاومة، وكان يوصف في الإعلام الذي رشحه لاحقاً، بأنه رجل سوريا الأول في لبنان. أصلاً طيلة حقبة الوصاية السورية، كان لبنان ثابتاً في موقعه تحت سقف الاصطفاف الإقليمي الممانع والداعم للمقاومة ضد اسرائيل. ومع ذلك لم يسبق أن تكوّن رد فعل داخل الكيان الصهيوني، عن أن وصول شخص إلى موقع سلطة دستورية لبنانية، هو خسارة له. فما الذي يراه الاسرائيليون خطراً إضافياً، في شخص ميشال عون وفكره ونهجه، وخصوصاً في ظروف وصوله إلى سدة الرئاسة اليوم؟
في هذا السياق، يمكن التوقف عند مسألتين أساسيتين: أولاً، الالتزام العميق لدى الرئيس المنتخب، بانتماء وطنه وناسه إلى محيطهم. صحيح أنه كتب الكثير عن هذا "السبق". لكن اسرائيل بالتأكيد، لم ولن تتوقف عن قراءة أبعاده. أن يأتي رئيس للجمهورية اللبنانية، مسيحي، ماروني، من قلب جبل لبنان، مؤمن حتى النسغ بانتماء وطنه وشعبه إلى محيطهما. والأهم الأهم، أنه قادر على إقناع ناسه بهذا الانتماء، شعوراً وسلوكاً، وعلى إلزامهم طوعاً وإرادياً نمط عيش وطني منسجم مع هذا الانتماء... مسألة تحسب لها اسرائيل أكثر من حساب.
يكفي استذكار الماضي المؤلم على هذا الصعيد، لإدراك عمق مراميه. من وصية بن غوريون إلى موشي شاريت، وصولاً إلى ما ينبش اليوم عن أسرار حربنا الأهلية. كل ذلك يؤكد أن ما أنجزه ميشال عون على صعيد الوجدان العام لجماعة لبنانية كاملة، يشكل فعلاً وبنيوياً هزيمة لاسرائيل.
أما المسألة الثانية، فمرتبطة مباشرة بالسياق السياسي اللبناني العام، الذي توج بانتخاب هذا الجنرال بالذات رئيساً. أن يتمكن قائد سابق للجيش من الانتقال إلى سدة الرئاسة، على قاعدة "سيبة" وطنية متعددة الأضلع: غالبية مسيحية كبيرة وواضحة، يضاف إليها تفاهم شيعي، مضمومة على توافق مع الأكثرية السنية، ومترافقة مع قبول درزي ... هذا معناه ولو شكلاً، إعادة بناء جسم سياسي لبناني جامع. بمعزل عن التباينات الحكومية الممكنة، وبعيداً عن بلاغيات "الوحدة الوطنية" وزجلياتها وكليشيهاتها، تدرك اسرائيل بلا شك، أن ظاهرة كهذه تعني انقلاباً في المسار اللبناني الانحداري الذي نظّرت له وخططت وعملت وتآمرت ونفذت طيلة عقود طويلة. تحت أغراض الشرذمة والتفتيت والتقسيم والتطييف والتمذهب حتى آخر حدود التذرر. أصلاً، وعلى الأقل منذ اندلاع الحرب اللبنانية سنة 1975، كانت معادلة الانقسام داخل كل بلد من بلدان الطوق الاسرائيلي، وبين كل منها، هدفاً صهيونياً أساسياً بامتياز. حتى أن نجاح المخطط في جعل مفهوم "اللبننة" مرادفاً في القاموس السياسي لانقسام مجتمع وطني على ذاته وتحاربه واقتتاله داخلياً، شكل الخطوة الأولى في مسيرة نجاح اسرائيل في سيطرتها الاستراتيجية على منطقتنا. وهو ما اعتبرت منذ خمسة أعوام، ومع هبوب أعاصير "الربيع العربي"، أنها أنجزت تجذيره في لبنان، ونقل عدواه إلى كل الجوار، لا بل تعميمه على كل بلدان الشرق الأوسط الكبير... وما ذكره الوزير الفرنسي السابق رولان دوماً لا يزال موثقاً بالصوت والصورة، حول إيمان اسرائيل، بأنها كسرت عواصم الهوية العربية التاريخية الثلاث، الفاطمية والعباسية والأموية. فجأة، ووسط احتفالية اسرائيل المعلنة بنصرها هذا، يطلع عليها مسار معاكس لاستراتيجيتها، من لبنان بالذات، وتحت عنوان لا يخلو من صلابة، اسمه وحدة لبنانية واضحة، حول مشروع وطني جامع. خطوة قد تنذر بانقلاب كل المخطط الصهيوني وانعكاس كل مساره السابق. أن تصير مفردة "اللبننة" مرادفاً جديداً لقدرة مجتمع تعددي على التفاهم في العيش والتشارك في الحكم والتوازن في إدارة دولة، ليس تفصيلاً في الفكر الصهيوني. بل يشكل ضربة قاسية لكل فلسفته في الوجود الغاصب...
ميشال عون رئيساً خسارة لاسرائيل، مسألة لا يمكن فهمها إلا بهذه الأبعاد العميقة.