أذكر عندما تم إقرار وثيقة الوفاق الوطني في الطائف، قام رئيس حركة «أمل» نبيه بري بدعوة المكتب السياسي والهيئة التنفيذية الى إجتماع مشترك لمناقشة كيفية الرد على هذه الخطوة بإعتبارها لا تلبي طموحاتنا على صعيد صياغة إصلاحات جذرية تتلاقى مع مبادىء المؤسس الإمام موسى الصدر، والتي إرتكزت على عنوان إصلاحي أساسي: إلغاء الطائفية السياسية.
ولأن هذه الوثيقة، كما تبين لاحقاً، حملت في بنودها آليات واضحة لإلغاء الطائفية السياسية، وإن لم تحدد مهلاً زمنية لإقرارها بل تم ربطها بمقدمات إصلاحية دستورية وإنتخابية، كما تضمنت في طيات نصوصها تكريساً تشريعياً وطنياً لحق اللبنانيين في مقاومة الإحتلال الإسرائيلي وتثبيتاً للعلاقة المميزة مع الشقيقة سوريا، إعتبرنا آنذاك أن حقنا الوطني بما يتناسب مع تضحياتنا قد وصلنا، كما وصل الى كل المناضلين لإسقاط ما كان يسمى صيغة 1943 وما نتج عنها من نظام طائفي ظالم.
وبما أن القوى والشخصيات التي برزت، أو التي تم إستحضارها، لتكوين سلطة ما بعد الطائف كانت تحظى بدعم إقليمي ودولي متنوع جعلها تستثمر هذ الدعم في حصر إدارة السلطة بنفسها، مع بعض الإستثناءات. هذه الحصرية المتداخلة مع منظومة المصالح والتفاهمات السورية ــــ السعودية ــــ الأميركية عَطَّلت إمكانية وضع خطط وآليات للبدء عملياً بتنفيذ الإصلاحات التي نص عليها إتفاق الطائف، بدءاً من وضع قانونٍ للإنتخابات يعتمد المحافظة دائرة إنتخابية على أساس النسبية وصولاً الى عدم تحقيق أمورٍ بديهية كموضوع اللامركزية الإدارية، ناهيك عن إستفحال الفساد وتراكم الدين العام. هذا الواقع وضعنا أمام حقيقة أنه صار هناك طائفان: الطائف المكتوب والطائف المُطَبَّق، وهي حقيقة كان قد إستشرفها الوزير ألبير منصور في كتابه الشهير الذي أصدره العام 1993 تحت عنوان «الإنقلاب على الطائف».
مع صدور القرار الدولي 1559، أواخر العام 2004، إعتقد بعض اللبنانيين أن الوقت قد حان لإسقاط البعد العربي ــــ الإقليمي لوثيقة الوفاق الوطني ــــ الطائف، متذرعاً هذا البعض بحدثٍ جَلَل تمثل بإغتيال الرئيس رفيق الحريري، ومحاولاً رمي كل الفشل والإخفاقات في إدارة البلاد وسوء إستخدام السلطة على عاتق القوة الإقليمية الراعية مباشرة لتنفيذ إتفاق الطائف، اي سوريا، وهادفاً بدعم أميركي ــــ دولي مشبوه الى النفاذ للنيل من المقاومة، وساعياً في الوقت نفسه الى إسقاط موقع رئاسة الجمهورية عبر السعي الى تجاوز رئيس الجمهورية في حينه، العماد إميل لحود، لإخراجه وللإستئثار بالقرار من خلال الإمساك بمفاصل السلطة السياسية والتنفيذية والإدارية.
شكلت الفترة الزمنية، بين 2005 و2008، منعطفاً خطيراً في تحديد مصير لبنان بما حفل من أحداث كبرى هدفت الى تثبيت لبنان كمنصة أميركية ــــ إسرائيلية في إستعادة لمناخات الإجتياح الإسرائيلي العام 1982 وتبعاته السياسية، وإن بوجوهٍ وأسماء مختلفة، ما أدى الى إحتدام الصراع الداخلي الذي تُوِّج بما سمي إتفاق الدوحة في تعليق واضح لإتفاق الطائف كردٍ على الإنقلاب الثاني عليه الذي قادته قوى 14 آذار، من خلال التفرد في تفسيره ومحاولة إسقاط مفاهيم ما سمي «ثورة الأرز» على نصوصه.
بعد وصول العماد ميشال عون الى سدة الرئاسة، إستبشر اللبنانيون خيراً بإمكانية إعادة الروح الى إتفاق الطائف، والإحتكام إليه بإعتباره المرجع النصي الوحيد الذي يحكم علاقات السلطات بما فيها من وصل وفصل، ويحفظ التوازن الوطني ووحدة اللبنانيين. وقد أثبت الرئيس عون أن رئيس الجمهورية، بحسب الطائف، يمتلك صلاحيات لها تأثير بالغ في مسار الوقائع السياسية خصوصاً إذا تم التعامل معها إيجابياً من قِبَل السلطات الأخرى المعنية، وهو ما حصل فعلياً حين قرر الرئيس عون إستعمال المادة 59 من الدستور رغم أن رئيس مجلس النواب كان قد حدد مواعيد مسبقة لجلسة تشريعية ضمن العقد العادي للمجلس.
على أي حال، التجاذب السياسي حول الإجتهاد في تفسير بنود الطائف المعاملاتية بين السلطات، يشرع الأبواب لمواجهة دستورية ــــ سياسية ستحملها مرحلة ما بعد الإنتخابات النيابية المقبلة. لكن الأهم والأخطر يكمن في ما تذهب إليه قيادة التيار الوطني الحر حول فرض تعديلات دستورية على وثيقة الوفاق الوطني تؤدي الى تطييف نصوصها والى إسقاط إمكانية وضع أجندة زمنية لمسار الخروج من الواقع الطائفي الى رحاب المواطنة القائمة على العدالة الإجتماعية والمساواة كما نصت الوثيقة.
إن فشل سلطة ما بعد إقرار الطائف في القيام بهذه المهمة لا يجب أن يدفع «الطائفيين الجدد» الى التذرع بذلك لإسقاط أحلام اللبنانيين وآمالهم بقيام دولة راقية وحضارية، بل أنه لا يحق لهم ذلك. خصوصاً أن العماد عون، قبل الرئاسة، أطرب أسماعنا وعلى مدى سنوات طويلة بثباته على مبادىء وقيم وطنية تصل الى حدود الدولة المدنية أو العلمنة، وإن كانت فكرة العلمنة الكاملة تستفز المرجعيات المذهبية المسيحية قبل الإسلامية خصوصاً ما يتعلق منها بالأحوال الشخصية.
إن التفكير المراهق بإسقاط مبدأ إلغاء الطائفية السياسية عبر حذف نصوص من دستور الطائف أو إضافة أخرى إليه سيضع هذا الدستور بأكمله في مهب النقاش الحاد، ومن ثم الصراع من جديد حول ماهية النظام السياسي في لبنان وأحجام مكوناته الطائفية وتوازنها من عدمه، خصوصاً أن توزيع المواقع الطائفية فيه في ما عدا ما نصت عليه وثيقة الوفاق الوطني كمرحلة تمهيدية، لا يعدو هذا التوزيع سوى كونه أعرافاً توافق اللبنانيون عليها.
الجواب الآن عند الرئيس بري الذي وإن كان يملك حرية القرار والمناورة في ما يعني موقعه التشريعي، إلا أنه مقيدٌ في ما يعني منظومة القيم الحركية ــــ الوطنية التي إلتزم خلف الإمام الصدر بالسعي لتحقيقها وأهمها إلغاء الطائفية السياسية.
* المدير العام السابق لوزارة الإعلام.