هو نفسه، الأمير السابق لقطر حمد بن خليفة آل ثاني، روى كيف أنه قصد ووزير خارجيته حمد بن جاسم الولايات المتحدة الأميركية، ساعياً إلى الحصول على اعتراف كامل بحكمه من واشنطن. قال الرجل إن الأمر لا يحتاج إلى كثير شرح، حتى نفهم نحن العرب أن الغطاء الأميركي هو الوحيد الذي يكفل استمرار حكمك، فكيف إذا كانت السعودية تريد رأسك؟
رواية «الأمير الوالد»، كما يُطلق عليه اليوم بعد تركه منصبه لنجله تميم، لا تتوقف عند السعي إلى مباركة أميركية لانقلابه على والده. بل يستمر في الكلام، قائلاً إن موظفاً أميركياً رفيع المستوى زاره في مقر إقامته في أميركا، وقال له: الأمر بسيط، عليك التوجه من هنا إلى فندق آخر حيث يقيم شمعون بيريز. اجلس وتفاهم معه، وعندما تعود، أُبلغك بموعدك في البيت الأبيض.
مرّت سنوات طويلة على هذه الحادثة وحصلت تطورات كثيرة، لكن القاعدة النظرية لضمان حماية النظام القطري لا تزال هي نفسها. وعندما قررت السعودية والإمارات ومصر عزل قطر قبل مدة، سارعت الدوحة إلى العنوان المناسب: الولايات المتحدة وإسرائيل!
التوتر القطري الناجم عن الحصار المفروض عليها من قبل دول خليجية وعربية، دفعها إلى القيام بخطوات سياسية كثيرة، من بينها العمل على تطوير العلاقات مع روسيا وإيران وتركيا، وإعادة الحرارة إلى هواتف توصلها بحكومات وقوى وشخصيات متنوعة في العالم العربي، مبدية استعدادها لفتح صفحة جديدة مقابل الحصول على دعم هذه الجهات في مواجهتها الحصار.

تتمسّك الدوحة بسياسة إرضاء إسرائيل لأجل كسب حماية أميركا على حساب الفلسطينيين

وفي هذا السياق أبدى القطريون الاستعداد للقيام بتغيير العديد من سياساتهم في المنطقة، بما في ذلك، وتحديداً، في ملفات سوريا والعراق واليمن، وأن يلعبوا دوراً سمّته الدبلوماسية القطرية «احتواء الإخوان المسلمين».
عملياً ما الذي حصل؟
في الملف العراقي، اكتشف القطريون أنّ السعودية لا تترك مجالاً لأحد، وأن تورط الولايات المتحدة الاميركية في إرسال جنودها من جديد إلى هناك لا يوسع هامش المناورة أمام الدوحة. وجاءت قصة احتجاز أفراد من العائلة الحاكمة إلى جانب قطريين آخرين في العراق، والتسوية التي قضت بإطلاقهم، لتخفّفا من دعم المجموعات الارهابية المقاتلة للدولة العراقية. لكن الأمر لم ينسحب على الدعم الاعلامي والسياسي المستمرين، بما في ذلك دعم أنصار النظام العراقي السابق، وبعض القيادات الاسلامية القريبة من تنظيم «القاعدة».
في سوريا، تعرضت المجموعات المدعومة من قطر لضربات كبيرة في الميدان. والمجموعات السياسية الخاضعة لسلطة قطر، تعرّضت بدورها لحصار نتيجة عدم فعاليتها، بينما تولّت السعودية سحب قسم منها باتجاهها. لكن قطر ظلت، وبإشراف تركي، تقدم الدعم المالي للمجموعات الارهابية، وخصوصاً في الشمال السوري، ولا سيما منها «جبهة النصرة»، والتي لا تزال حتى اليوم تملك نفوذا كبيراً داخل قياداتها الدينية والميدانية، رغم أنّ الدوحة أبلغت الجميع أنها في صدد وقف الاتصالات مع هذا التنظيم، وأنها لن تشارك في أي وساطات جديدة، بما في ذلك «اعتذارها» عن المساهمة في الوساطات التي قامت على إثر الضربات التي وجهت إلى «جبهة النصرة» على الحدود اللبنانية ــ السورية، علماً بأن قطر لم توقف دعمها الاعلامي والسياسي للمجموعات المسلحة السورية، وهي لا تزال تقود أوسع حملة بالتعاون مع الاميركيين والفرنسيين لمنع أي تواصل مع الحكومة السورية.
في اليمن، تصرفت قطر على أنها «تحررت» من الورطة السعودية. لكن موقفها الفعلي لم يكن ــ وليس هو الآن ــ ضد العدوان وضد الجرائم اليومية بحق الشعب اليمني، وكل ما في الأمر أنّ الدوحة تريد منافسة الرياض وأبو ظبي على النفوذ في البلد المنكوب، ولديها جماعاتها هناك، ولا سيما المجموعات المتصلة بالإخوان المسلمين (حزب الإصلاح) وبعض القيادات القومية العربية ومجموعات سلفية. وهي عندما ترفع الصوت ــ إعلامياً ــ لا تُقدم على أي خطوة عملية في اتجاه وقف حمام الدم في اليمن. بل حتى عندما يتطرق الأمر إلى مفاوضات جانبية، تظهر قطر التزاماً كاملاً بالتوجّهين الأميركي والبريطاني في ما خصّ المفاوضات مع «أنصار الله» حول مستقبل اليمن.
لكن كل ما سبق ليس إلا ذرة مقابل ما تقوم به في الملف الفلسطيني. وهنا بيت القصيد، حيث تعود الدوحة إلى «القاعدة الذهبية» التي تقول إن الحصول على دعم غربي في مواجهة ضغوط السعودية والإمارات ومصر، يتطلب رضى أميركياً صريحاً. ولهذا الرضى مداخل عدة، أبرزها رضى إسرائيل، وهذا ما يتضح أن قطر تقوم به، سواء من خلال برامج التعاون القائمة بواسطة موفدها إلى غزة السفير محمد العمادي، الذي يفاخر بعلاقاته الإسرائيلية وبلياليه الحمراء في تل أبيب ولقاءاته المفتوحة مع القيادات السياسية والأمنية الإسرائيلية، أو من خلال ممارسة أبشع عملية ابتزاز بحق الفلسطينيين في قطاع غزة، لجهة المحاولات المستمرة لمقايضة برنامج الدعم للإعمار بالحصول من الجانب الفلسطيني على تنازلات تخصّ ملف الصراع مع إسرائيل. مع التذكير بأنّ قطر روّجت، ولا تزال، لفكرة تقول إن فشل مساعي التسوية السياسية يرافقه فشل في برنامج المقاومة. وهي فكرة تستهدف الدخول إلى العقل الجمعي للفلسطينيين وتثبيت أن الأكل والشرب أولوية لا تسبقها أيّ أولوية، بما في ذلك معركة الاستقلال.
ما يصل من غزة، وبقية فلسطين، عمّا تقوم به قطر، من خلال مندوبها، لا يبشّر بالخير، ويؤكد مرة جديدة أن كل ما تقوم به «فقاعة الغاز» لا يعدو كونه منافسة للإمارات والسعودية على كسب ودّ الولايات المتحدة وإسرائيل.
والمشكلة هنا ليست مع قطر نفسها، بل مع من لا يزال من الفلسطينيين أو العرب يثق بأنها تقف فعلياً إلى جانب الحق العربي في التحرر من الاحتلال ومن التبعية للغرب الاستعماري... إنه زمن الوقاحة القطرية!