ليس في مقدور أحد ردع الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن الضربة العسكرية لسوريا. لكن، ليس في مقدور الولايات المتحدة حسم اتجاهات الأمور مسبقاً. كلما تعقد المشهد السياسي المحيط بالعدوان الاميركي ــــ الأوروبي، يظهر أن واشنطن ليست مبسوطة اليد في بلادنا. وأن الدولة الاقوى في العالم لا يمكنها أن تتصرف في منطقتنا كما تفعل في أي مكان آخر من العالم. وأن في المؤسسة الناظمة للقرار الأميركي من ينبّه الرئيس المجنون الى قواعد لا يمكن تجاوزها. وأن في هذه المنطقة اعداء ليسوا من الصنف الذي تعودت عليه واشنطن.بين الاعلان الاول عن نية ترامب اتخاذ قرار بالعدوان على سوريا، وبين اللحظة التي كتبت فيها هذه السطور، مرت أيام عدة، كانت مليئة بالمشاورات على مختلف الصعد. مشاورات سياسية وعسكرية وأمنية ودبلوماسية. ومع كل خبر عن اتصالات او تصريحات، يتبين ان القرار بالعدوان محسوم، لكن كيفية العمل ولائحة الاهداف محكومتان بقيود كثيرة. على ان الثابت الوحيد هو ان السبب لا يتعلق ابداً بما يجري الحديث عنه من هجوم كيميائي على مدينة دوما.
لنعد قليلاً الى الوراء. منذ نهاية الصيف الماضي، حُسم لدى الدوائر المعنية، في الغرب والخليج واسرائيل، بأفول عمل العصابات المسلحة في سوريا، وهو ما يستدعي عملاً مباشراً يستهدف احتواء الموقف. كان الاميركيون يعتقدون بأن سيطرتهم على مناطق شرق الفرات، والتحكم بالقوات الكردية المسلوبة الارادة، يكفي لتهديد استقرار النظام في دمشق. لكن واشنطن كان تعي ان المعركة ضد «داعش» استلزمت خطوات عملية كبيرة في الجانب العراقي، وتمت على ايدي حلفاء الرئيس بشار الاسد. وفي المقلب الآخر، لم تعد تركيا تعمل وفق الاجندة الاميركية، وباتت هواجسها تحاكي أولويات خصوم الولايات المتحدة. مضت أنقرة في عملية قلع اظافر الاكراد لا تقليمها. وهي معركة استدعت تحولاً عملياً في الموقف التركي من كل الملف السوري. صحيح ان الطاغية اردوغان ليس في وارد التنازل الآن والتراجع عن موقفه من اطاحة الاسد، لكنه سلّم بالقواعدة الروسية والايرانية التي تقول إن اي نشاط تركي في سوريا سيكون محكوماً بتفاهمات تفصيلية مع موسكو وطهران، ما يعني تفاهماً غير مباشر مع دمشق، من دون انتزاع موافقة سوريا على ما تقوم به تركيا. وحتى عندما هاجمت تركيا عفرين، كانت تعرف ان الاسد يريد مساعدة الاكراد، رغم كل اخطائهم، لتعقيد المهمة التركية.
اي محاولة لعدوان هدفه اطاحة نظام الاسد يعني معركة وليس اشتباكا مع روسيا وايران وقوى المقاومة


في غضون ذلك، كان الصراخ الاسرائيلي يرتفع يوما بعد يوم. صحيح ان تل ابيب كانت اول من اقرّ بوجود طرف ثان يقرر مصير المنطقة، اي روسيا، وصحيح ان علاقاتها بموسكو قوية. لكن ذلك لم يتح لقادة العدو اكثر من الذهاب مرارا وتكرارا الى روسيا للبحث في ضمانات. والحقيقة التي يعرفها الجميع ان روسيا كان حاسمة في انها ليست طرفا في الصراع الايراني ـــــ العربي مع اسرائيل. لكنها ليست ضامنة لحماية امن اسرائيل. وترجم هذا الموقف بعدم حصول العدو على اي تعهد نظري، او اي خطوة عملية تريحه من هاجس النفوذ المتوسع لايران وحزب الله في سوريا عموماً، وفي جنوبها على وجه الخصوص. وحتى عندما أبلغت موسكو الاسرائيليين انها لن تقف عائقا امام عملياتهم العسكرية في سوريا، جرى تنبيههم إلى أن الخط الاحمر يشمل بنية النظام وليس رئيسه فقط. وبالتالي، فان اي عدوان اسرائيلي لا يمكن ان يتجاوز اهدافاً لحزب الله او ايران. اكثر من ذلك، أبلغت روسيا اسرائيل انه متى قرر الاسد الرد على غارات اسرائيل، لن تكون موسكو قادرة على منعه من استخدام الترسانة العسكرية الموجودة لديه اصلا، او التي تعززت من خلال برامج الدعم الروسي خلال السنوات الثلاث الماضية. وهو الامر الذي اختبرته اسرائيل في العاشر من شباط الماضي، حين اسقطت الدفاعات الجوية السورية طائرة حربية للعدو.
على ان الامور لم تقف عند هذا الحد. فالنظام في سوريا، ومعه الحلفاء من روس وايرانيين وحزب الله، كانوا يعلمون ان تحصين الانتصارات يتطلب خطوات ميدانية خاصة. وان تعطيل اي قدرة للقوى المعادية باعادة تهديد المركز، يتطلب توسيع اطار السيطرة حول دمشق الكبرى. وبالتحديد، التخلص من جيب الغوطة الشرقية. وهو الامر الذي استوجب عملية عسكرية منسّقة ومكثفة أدت خلال وقت قياسي (نظرا الى حجم الانتشار المسلح والاختلاط بمئات الالوف من المدنيين) الى التخلص من هذا العبء. ولم تنجح التهديدات التي اطلقت خلال عمليات تطهير الغوطة في وقف المعركة. وشعرت الولايات المتحدة ومعها اسرائيل والسعودية وعواصم اخرى بالاستفزاز الكبير، وكانت الذروة يوم ظهر بشار الاسد يقود سيارته متجها من مكتبه في وسط دمشق الى مدن الغوطة.
وعندما بات محسوماً ان المماطلة في دوما لن تنفع، اعاد الجميع درس الموقف، وظهر لهم ان من نجح في السيطرة على الغوطة، المميزة بطبيعتها العسكرية والعمرانية، سيكون قادراً على استعادة السيطرة على مناطق اكبر في عمق الجنوب السوري، سواء في درعا او القنيطرة. وتعزّز هاجس القوى المعادية لسوريا، ربطا بمعرفتها ان جموع المسلحين في الجنوب ليسوا قادرين على الصمود، فكيف يمكن الرهان على دعمهم بعملية عسكرية مضادة. كل ذلك، ترافق مع الحسابات التي تجاوزت المشهد الميداني في سوريا، وبعض ما فيه:
تثبيت روسيا موقعها الحاسم كلاعب له دوره المركزي في الشرق الاوسط، ومنه ينطلق الى تثبيت حضوره في العالم اجمع. وان ما تقوم به موسكو، سيراكم قوة سيكون لها تأثيرها على ساحات اخرى في العالم.
تثبّت الغرب من ان الشريك التركي صار في مكان اخر، وان اولويات انقرة عبرت عنها القمة التي استضافتها أخيراً، والتي فتحت الباب امام تركيا للاستدارة نحو سياسات مختلفة جذرياً عن السابق.
تثبت الغرب من ان حلفاءه العرب، وفي مقدمهم السعودية، وإن اظهروا استعدادا للسير في مشاريع كبيرة، الا انهم ليسوا في موقع القادر على التعهد بشيء، اللهم الا ضخ الاموال على ما يقول ترامب نفسه.
تعززت مخاوف اسرائيل من كون النتائج المتوسطة والبعيدة المدى لما يحصل في سوريا، تهدد امنها القومي اكثر من اي وقت مضى. واسرائيل هنا لا تراقب نفوذ قوى المقاومة في سوريا ولبنان فحسب، بل تنظر الى التحولات الجارية سريعا وبقوة على صعيد قوى المقاومة في فلسطين ايضا.
شعر الغرب، ومعه السعودية واسرائيل، بأن نقل المواجهة مع ايران الى مستوى جديد منتصف ايار المقبل، ربطا بقرار متوقع من الادارة الاميركية بالتخلي عن الاتفاق النووي، قد ينعكس تداعيات في المنطقة عندنا، وبالتالي، يجد الغرب، ومعه السعودية واسرائيل، ضرورة قصوى للمبادرة الان، بغية تعديل الوقائع ما يجعل ايران متعبة اكثر من السابق.
وسط هذه الاجواء كلها، يخرج الموقف الاميركي الجديد. وهو الموقف الذي يتطلب دعما وتغطية بصورة تذكرنا بالحرب على العراق. وهو ما نشهده اليوم، من خلال الاصطفاف الغربي خلف الموقف الاميركي، ومن خلال مواقف الحكومات العربية الخائفة على مصيرها، ومن خلال لعبة الرأي العام التي تقودها نخب اقل ما يقال عنها انها شريكة في سفك دماء شعوبنا، مهما تحدثت عن الاسباب الانسانية والاخلاقية وخلافه.

لكن ماذا ما الذي يمكن هؤلاء القيام به؟
في خيارات الاميركيين وحلفائهم سعي الى قلب الطاولة. وبالتالي فان ذهابهم نحو تحقيق اهداف استراتيجية، يعني ذهابهم الى حرب شاملة ونقطة على السطر. لأن اي محاولة لعدوان هدفه اطاحة نظام الرئيس الاسد، يعني معركة وليس اشتباكا مع روسيا وايران وقوى المقاومة. وعندها ستشتعل المنطقة وليس سوريا فحسب، وستكون اسرائيل كما دول الخليج مسرحا لمواجهة لا احد يقدر على تصور نهاياتها.
اذا كان الاميركيون يريدون رسم خطوط حمر تمنع سوريا وحلفاءها من مواصلة تنظيف البلاد من العصابات المسلحة، فهذا يتطلب ايضا معركة كبيرة مع روسيا وايران والحلفاء، ولو حصرت المواجهة داخل سوريا. كما يتطلب ان يجد المعتدون قوى سورية تكون قادرة على تولي المهمة. وهو امر صعب التحقق.
اذا كان الاميركيون يريدون توجيه ضربات موضعية يراد من خلالها الاعراب عن غضبهم، فيمكن للمحور المقابل ان يستوعب الامر ويتحمله، ويتصرف على انه ثمن لتحرير الغوطة.
لكن هل هذا يكفي، وكيف تتصرف اسرائيل التي قامت بعدوان هو الاقسى على القوات الايرانية في سوريا من خلال غارة مطار الـ«تي فور»، وكيف يمكن اقناع اسرائيل بأن الغرب غير قادر على القيام بأكثر مما يقوم به. وكيف سيتصرف العدو بعد ذلك، وهو الذي يعرف جيدا ان ايران سترد على غارة الـ«تي فور». واذا كانت طهران لا تريد احراج روسيا وسوريا في هذه اللحظات الدقيقة، فهذا لا يعني انها لن ترد، بل ربما سيكون ردها فاتحا لمستوى جديد من المواجهة مع العدو.
اليوم، نحن امام خيارات محدودة. ولسنا امام غيب يحتاج الى علم خاص. ليس امام الاميركيين والغرب واسرائيل وبعض العرب، سوى اتخاذ القرار: اما ابتلاع الهزيمة والاستعداد لما يليها، واما الجنون والاستعداد لنتائجه الكارثية!