أزمة النموذج الاقتصادي اللبناني باتت داهمة. لم يعد هناك نقاش في ذلك. كل الأطراف المعنية تدرك حجم الأزمة وطبيعتها المتفجّرة. أطلق هذا الأمر معركة التصحيح المبكر الذي يسبق الانفجار. النقاش يدور اليوم حول آليات التصحيح وكلفته: أي تصحيح؟ بأي وجهة؟ من يطاول؟ من يدفع كثيراً؟ من يدفع قليلاً؟ من لا يدفع؟ إزاء كل هذه الأسئلة، تبدو قوى السلطة مربكة. في الغالب هم منقسمون بين وجهتين: وجهة تريد أن تحافظ على النموذج القائم المستهلَك إلى درجة بات معها قابلاً للانفجار في أي لحظة، وهذه الوجهة تتبنّى فكرة أساسية عنوانها «التقشّف والتحصيل». والوجهة الثانية تتبنّى رأياً لا تحسم فيه خياراتها للإبقاء على هذا النموذج أو تغييره، لكنها تصرّ على أن إعادة هيكلة الدَّين العام هي المدخل الوحيد لأي تصحيح، وإن كان هذا الأمر لا يلغي تطبيق الإجراءات الأخرى، بل يشكّل انطلاقة حيوية لها.وزير المال علي حسن خليل، بما يمثّل سياسياً، حسم خياراته في التعامل مع هذه الأزمة. مصرف «غولدمان ساكس» الأميركي استند إلى تصريحات الوزير خليل، ليعدّ تقريراً يسأل فيه عن قيمة المبالغ التي سيستردها حاملو سندات الدَّين السيادية (يوروبوندز) ويحذّر من أن عمليات من هذا النوع تؤدي إلى إفلاس المصارف اللبنانية (علماً أن «غولدمان ساكس» ليس جهة محايدة، لكونه يحمل كمية كبيرة من السندات اللبنانية لحساب زبائنه). الوزير خليل يقول لـ«الأخبار» إن هذا التقرير «تمرين كلاسيكي» تقوم به المؤسسات المالية التي ترى نفسها معنية، «أما بالنسبة إلينا، فإن القيام بعمليات تصحيح مالي ينطوي على إعادة هيكلة للدَّين العام، أمر مطروح من أيام الرئيس سليم الحص. صحيح أن الوزارة تعدّ خطّة للتصحيح المالي تتضمن إعادة هيكلة للدَّين العام، لكننا لم نُفصح عن هذه الخطّة لأحد، ولم نعط أي انطباع عن تفاصيلها لأي جهة أو طرف، ولا أحد يعلم ما الذي نعدّ له».
يجب أن يكون التصحيح طوعاً قبل الدخول في تطورات دراماتيكية


من مبرّرات قيام الوزارة بهذه الخطة، أن «الدَّين العام لا يمكن أن يستمرّ بهذه الطريقة ولا بهذه الكلفة السنوية. إذا قمنا بعملية بسيطة لاحتساب خدمة الدَّين العام على مدى السنوات المقبلة، فسيظهر بكل وضوح أن الكلفة باتت غير محمولة، ولا يمكن الاستمرار بهذا الاتجاه». ولا يخفي الوزير خليل قلقه من أن البديل الوحيد للقيام بعملية تصحيح طوعي، أن «نذهب إلى تطورات دراماتيكية». وبات واضحاً لديه أنه لا يمكن الفصل بين «السياسة النقدية والسياسة المالية». فمن البديهي أن كل واحدة تؤثّر في الأخرى، وهما معاً يؤثّران في الاقتصاد بكل تفاصيله. والمقصود بهذا الكلام أن مصرف لبنان الذي كان يتعامل مع السياسة المالية والسياسة النقدية كأنهما واحد، عاد اليوم للفصل بينهما تحت وطأة الضغوط الناجمة عن نزف احتياطاته بالعملات الأجنبية، وتسجيل ميزان المدفوعات تراكماً سلبياً كبيراً خلال السنوات الثماني الماضية.
على أي حال، تعدّ وزارة المال خطّة للتصحيح الطوعي المالي. وبحسب خليل، فإن هذه الخطّة تدرس اليوم فرضيات وسيناريوهات مختلفة لهذه العملية التي يجب أن تشمل مفاصل أساسية، أبرزها: إعادة هيكلة الدَّين العام، الإجراءات الإصلاحية، عجز الخزينة، زيادة التحصيل الضريبي، السياسات القائمة... لا يعتقد خليل أن هناك مصلحة وطنية في الخوض في تفاصيل الخطة علناً قبل مناقشتها وإشباعها درساً مع الأطراف المعنية. «هذا الأمر يحتاج إلى قرارات في مجلس الوزراء، إشراك الكتل النيابية، ومصرف لبنان، المصارف... وغيرهم ممن هم معنيون بالحلول التي سنقترحها لتجنيب لبنان التطورات الدراماتيكية. ما نقوله اليوم، أنه لا يمكن إدارة البلد بالسياسات السابقة نفسها، ولا يمكن ترك الدَّين العام على المسار نفسه، ولا يمكن أن تبقى السياسات الحكومة على حالها، يجب أن نسعى لزيادة التحصيل الضريبي، وأن نعيد النظر في خدمة الدَّين العام. ربما هناك أمور يمكن القيام بها من خلال قرارات وزير، وهناك أمور تحتاج إلى قرارات في مجلس الوزراء، وغيرها مما يحتاج إلى قوانين».

الحريري منحاز إلى المصارف، والتيار الوطني الحر لم يعلن موقفه بعد


يرفض خليل أن يعلّق على مسألة توزيع الأعباء باستثناء أنها يجب أن تكون عادلة. يعتقد الوزير أن «الخيارات ليست واسعة أمام الأطراف المعنية. ليس لدينا ترف قبول المقترحات أو رفضها، الكلفة الإصلاحية يجب أن تتوزّع بعدالة».
هكذا إذاً، يبدو أن الجهة السياسية التي يمثّلها وزير المال حسمت خياراتها في عملية التصحيح الطوعي. هو أصلاً كان حذراً في إطلاق مواقف تفصيلية من هذا التصحيح، وترك الأمر يأخذ مجراه في اتجاه مجلس الوزراء والكتل النيابية والأطراف المعنية. هذا الأمر ليس تفصيلاً، فالشيطان يكمن في التفاصيل. هناك مصلحة لكل طرف من الأطراف الفاعلة والمؤثّرة. فالتصحيح انطلاقاً من «شطب جزء من الدَّين» أو يُسمّى في الأسواق المالية العالمية بـ«قص الشعر» سيرتّب كلفة على رأس المال. «غولدمان ساكس» يهوّل بأن ذلك سيؤدي إلى إفلاس المصارف، ويحذّر من أن تطبق «قصة الشعر» على المودعين (وفق الطريقة القبرصية، حين وضعت الحكومة القبرصية قيوداً على التحويلات المالية، واقتطعت نسبة من الودائع). هو يقدّم وصفة تقنية - نظرية عن تداعيات مثل هذه العمليات لا تأخذ بالاعتبار سيادة لبنان والعقود التي تتضمنها سندات اليوروبوندز والتي تشير إلى أن يوافق 75% من حاملي السندات على أي إجراء يلزم كل حاملي السندات. هذا الأمر منصوص عليه دولياً، ولا يمكن أي جهة أن تقاضي الدولة اللبنانية أمام أي محكمة محلية أو خارجية في هذه الحالة. المشكلة أن القوى المحلية، أي غالبية قوى السلطة، لديها مصالح مع الطبقات الأكثر ثراءً والأكثر استفادة من المال العام منذ نهاية الحرب الأهلية إلى اليوم. بعض القوى السياسية، قرّر أين سيقف ومع مَن. الرئيس سعد الحريري يقف إلى جانب المصارف، ويرفض أن تتعرّض لأي خسائر. لذا، أطلق وزيره المستقبلي لخصخصة قطاع الاتصالات محمد شقير، للحديث عن سلسلة الرتب والرواتب بوصفها سبب الأزمة. ويسعى الحريري وفريقه السياسي - المالي إلى أن تبدأ الحكومة بخفض إنفاقها، وتحصيل الأموال من جيوب الفقراء قبل المصارف وكبار المودعين. وأكثر ما يعارضونه هو أي تعديل للنظام الضريبي ينتج بعضاً من العدالة التي ترحم الشرائح الأكثر قهراً في المجتمع. المهم في الأمر أن هناك قوى لم تعلن موقفها بعد، وعلى رأسها التيار الوطني الحر.