«ويكون أن يأتيبعد انتحار القحط في صوتي
شيء روائعه بلا حدّ
شيء يسمّى في الأغاني
طائر الرعد»

سميح القاسم


هذا العام، تحلّ ذكرى تحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي يوم الخامس والعشرين من أيار، في ظروف وطنيّة وإقليميّة صعبة وحساسة. ولعل التحديات التي تشهدها المرحلة، إنما تعطي لـ«عيد المقاومة والتحرير» أهميّة مضاعفة، وبُعداً أرحب، على المستوى الوجداني والسياسي، الرمزي والاستراتيجي. هناك، بعد تسعة عشر عاماً، من يريد بأي ثمن تقويض تلك اللحظة البطوليّة التي مهّدت لإنجازات وانتصارات تاريخيّة لاحقة، فوق أرضنا، وعلى حدودنا، وفي العمق الاستراتيجي العربي... من يريد أن يمحو لحظة تاريخيّة قلبت موازين القوى في هذا الصراع الوجودي، المصيري الذي تخوضه شعوبنا منذ سبعة عقود ونيّف، من أجل إخضاع المسخ الاستعماري، وتحرير الأرض، واستعادة الكرامة والحقوق.
25 أيّار تتويج لكفاح مضن ومكلف، تخوضه شعوبنا في مواجهة عدوّ غاشم ودموي وعنصري ومتغطرس، أسّس كيانه على المجزرة، على الاستطيان والأبارتهايد… علماً أن بعضهم قد انتظر عقوداً طويلة ليكتشف تلك الحقيقة مع إقرار «قانون الدولة اليهوديّة»، وبعضهم الآخر لم ينتبه حتّى الآن! 25 أيّار انتصار على الغرب الاستعماري المنحاز لقاتلنا، يحميه ويدعمه ويسلّحه ويطمس جرائمه ويبرّر مجازره ويشرعن سياساته الاجراميّة. وأخيراً، 25 أيّار، هزيمة لأنظمة الردّة والاستبداد والاستسلام في العالم العربي، وهي المسؤولة عن تكريس كذبة «التفوّق الإسرائيلي». تلك الأسطورة التي بدأت تترنّح في العام ألفين، قبل أن تتحطّم نهائيّاً في صيف 2006، تغذّت طويلاً من عجز الأنظمة العربية وضعفها وتخاذلها وتواطؤها مع الاحتلال. وها هي «إسرائيل» تحاول أن تستجمع حطامها، أن ترمم تصدّعاتها، مستقوية بإكسير الفتن الأهليّة في بلداننا، ومستجيرة بالخيانات العربيّة التي خرجت بشكل سافر إلى العلن في السنوات الأخيرة.
في 25 أيار 2019، أكثر من أي وقت مضى، ندرك أن التحرير مسيرة صعبة ومتواصلة. هناك من يحتفل بالمناسبة بخجل في لبنان، ولا يجرؤ على تسمية الذين حرروا الأرض، والذين دحروا التكفيريين فعليّاً… وهناك من يواجه المناسبة بالإنكار والتجاهل، كأنّها لم تكن… فهل هؤلاء يفضلون الاحتلال الاسرائيلي؟ كلا طبعاً، باستثناء حفنة صغيرة من المتآمرين والعملاء والمرتزقة. الباقون رهائن عصبيات ومصالح، وحملات تجهيل وغسل دماغ، وضغوط استعماريّة، وأميّة وطنيّة، وجبن ربّما، أيّاً كانت رتبتهم أو منصبهم أو موقعهم من دائرة صناعة القرار. وإذا كان صحيحاً أن مقاومة الاحتلال في أي مكان أو زمان، لا تنتظر استفتاء شعبياً، ولا اجماع النخب المستلبة أو المنشغلة بتعزيز امتيازاتها، فإن مهمّة تحصين المجاهدين الذين قهروا «إسرائيل»، تمرّ اليوم ببناء وعي وطني عابر للمناطق، خارج على المتاريس الفئوية، يلتفّ حول المقاومة ويحضنها ويحميها. المقاومة هي أيضاً مواجهة اختراق الوعي، وتعرية الخطاب التضليلي الذي يطمس جوهر الصراع، وفضح آليات الترويج لثقافة التنازل والاستسلام.
الأنظار موجّهة إلى فلسطين المحتلة التي باتت على مرمى وردة من بنادق المقاومين


الأنظمة التي استسلمت لإسرائيل، هي نفسها الأنظمة التي تستغل شعوبها، وتستعبد مواطنيها. ولبنان خير مثال على ذلك. إن النظام الطائفي العاجز عن مواجهة إسرائيل، هو النظام الفاسد نفسه الذي جوّع اللبنانيين، ويقودهم اليوم إلى الكارثة بخطىً واثقة. الشعب الذي قدّم الشهداء والمقاومين، مهدد بالفقر والحرمان. وعلى عاتق المقاومة قبل سواها، تقع مسؤوليّة تحرير الانسان، كما حرّرت الأرض. ومقاومة الظلم السياسي، مثلما قاومت ظلم الاحتلال ووحشيته. وفي المقابل، فإن النضال من أجل الحقوق الاجتماعيّة والمدنيّة، ومن أجل سير المجتمع نحو مزيد من العدالة والديمقراطيّة والتقدم، لا يستقيم، ولا يأخذ شرعيّته الوطنية، بل قد يستحيل تبعيّة مقنّعة، واستعراضاً سطحيّاً خطيراً لا نعرف وجهته، إذا لم يقم على مبدأ تأسيسي، هو أن إسرائيل عدو، وأن مقاومتها بكل الوسائل مسؤولية فردية وجماعية، دينيّة وعلمانيّة، أهليّة وحزبيّة، مدنيّة وسياسيّة.
25 أيّار تتويج لتضحيات وبطولات، بدأت مع المقاومة الوطنيّة، اليساريّة والقوميّة، ثم تواصلت وتوسّعت وتنامت مع مجاهدي المقاومة الاسلاميّة في لبنان الذين حطّموا أسطورة التفوق الاسرائيلي. بفضل هؤلاء، يتلطّى العدو الآن مذعوراً خلف خطوط الدفاع الخلفيّة، وينعزل أكثر فأكثر داخل الغيتو، محاطاً بالجدران والأسوار، محاولاً أن يعوّض بالطرق المواربة، كل ما خسره في عقد الانتصارات العربيّة الحاسمة. أما المقاومة، فتقف اليوم في مواجهة الكاوبوي الأميركي الذي يظن أنه ما زال بوسعه اخضاع العالم. وهذا وحده دليل على صلابتها وقوّتها وشرعيّة نضالها.
كل ما نشهده من حروب ليّنة، وحملات تضليل وتزوير عالميّة، ودسائس داخلية، واستراتيجيّة ابتزاز وحصار وعقوبات، ليس إلا محاولة يائسة للالتفاف على المقاومة، واضعافها، ومنعها من مواصلة كفاحها. وعند هذا المنعطف الصعب، على وقع طبول الحرب ضد إيران، تقرعها مجموعة من الأصوليين البيض المحيطين بالأبله السعيد في البيت الأبيض، نحتفل بصخب بـ«عيد المقاومة والتحرير». ونحتفي بتلك اللحظة المفصلية التي شهدت انهزام العدو، متنبهين إلى ضرورة صيانتها، وترسيخها، واستكمالها بشتّى الوسائل! اليوم في 25 أيّار نحتفل بالهزائم المقبلة لتلك الآلة الكونية الهائلة التي تحاول يائسة أن تحاصر حزب الله. نستعيد صور تحرير معتقل الخيام برمزيّته العالية، ونتخيّل تحريراً آخر «لا بدّ أن يأتي» في مستقبل قريب. إن تحرير تلال كفرشوبا ومزارع شبعا هو اليوم تحصيل حاصل. فالأنظار موجّهة إلى الأراضي المحتلة التي باتت على مرمى وردة من بنادق المقاومين. وبتنا نرنو إلى اللحظة التي سنحتفل فيها بتحرير كامل تراب فلسطين. 25 أيار هو عيد الأمل بمواصلة المقاومة والتحرير!