على طول الخط الحدودي الجنوبي، يتخذ جيش الاحتلال إجراءات خاصة. الأمر تجاوز تماماً كل ما كان سائداً قبل حرب تموز العام 2006، والاستنفار له لغة عملية يومية غير قابلة للاسترخاء. والمعركة هناك تتخذ طابعاً أمنياً بصورة واضحة، إذ يقوم الاشتباك الأمني اليومي بين المقاومة وقوات الاحتلال من دون أن يشعر الناس من حولهم بالأمر.استفاد العدو كثيراً من القرار 1701، وهو ظل، الى الآن، يستفيد من قوات الطوارئ الدولية لأجل مسح المنطقة المقابلة لمواقعه ومستوطناته. ويعمل ليل نهار على مسح تقني وربما يفعّل خلايا تجسّسية له، بغية الوقوف على تفاصيل كل ما هو قبالته. لكن العدو، كان على الدوام، واثقاً من أن الطرف المقابل لم يتوقف عن الاقتراب من الحدود. وفي الفترة القريبة الماضية، بدأ العدو يتصرف على أن رجال المقاومة عادوا لينتشروا على الحدود مباشرة، وأن أيديهم على السياج.
صحيح أن المعركة والإجراءات تقوم هناك من دون صخب، لكن القوى الفاعلة قادرة على ملاحظة الفروقات الهائلة في الإجراءات وحتى في الطبيعة الجغرافية للحدود. انتشار العدو الكثيف عبر مواقع عسكرية ثابتة وعبر مواقع تتبع للاستخبارات العسكرية ومجهزة بتنقيات الرصد والتعقب والتنصت تملأ المكان. وأصلاً، زوّد العدو مجموعات على الحدود بأجهزة رصد متطورة غير موجودة لدى كثير من جيوش العالم، إضافة الى تطوير مهام الطائرات من دون طيار العاملة من دون توقف في كل المنطقة.
من جانبها، طورت المقاومة عدة أسلحة أمنية وعسكرية وتكتيكية. والواضح أنها نجحت في عزل الفرق العسكرية العاملة في الجنوب عن أي تطور آخر، سواء في داخل لبنان أم في سوريا والعراق. صحيح أن كوادر ومقاتلين شاركوا في كل الحروب، لكن متطلبات الجاهزية على الحدود لم تتعرض لأي تعديل طوال الوقت. بل على العكس، كانت الدروس من تجارب الحروب تنعكس على أداء وبرامج التدريب الخاصة بالمقاومين، وخصوصاً أن مهارات القتال الهجومي ليلاً ونهاراً وفي مناطق مختلفة التضاريس، ووسط تفعيل مجموعة من الأسلحة، كل هذه المهارات انعكست على سلوك القوات الموجودة ضمن قوات «المقر»، أو الاسم الخاص بموقع المواجهة المسؤول عن منع العدو من التقدم داخل الاراضي اللبنانية... وحتى أكثر من ذلك.
بعد مواجهة الصيف الماضي، عندما هاجمت المقاومة دورية للعدو قرب مستعمرة أفيفيم، تبدلت الأمور كثيراً. صحيح أن العدو كان أطلق قبل مدة عملية «درع الشمال» بحجة كشف أنفاق للمقاومة وتدميرها، إلا أن العملية العسكرية قلبت المشهد. وصار العدو يتعامل مع الوقائع بصورة مختلفة، أي إنه صار يعرف أن كل عمل يقوم به في أي منطقة من العالم ضد المقاومة، سيقابله ردّ فعل واضح، جهاراً ونهاراً، في نقطة تختارها المقاومة على طول الحدود مع فلسطين.
وإزاء ارتفاع منسوب الخشية لدى العدو من قبل المقاومة بعمليات في العمق وليس عند الحدود حصراً، تم وضع خطة عملانية ورصدت لها موازنة مالية كبيرة (عادت وتعرقلت أخيراً) من أجل إنجاز خطوات تهدف الى طمأنة سكان المستعمرات والعاملين في المزارع والمصانع، ومن أجل حماية المواقع والقوات الاسرائيلية المنتشرة على طول الحدود أيضاً. هي إجراءات ركزت في غالبية الأحيان على إبعاد العنصر البشري عن «الاحتكاك»، خشية تعرضهم للقتل أو حتى للخطف، وهذا يتضح من خلال ارتفاع منسوب الأعمال التقنية.
أما العنوان المركزي لكل خطط العدو في تلك المنطقة فهو: منع تسلل المقاومين الى داخل المستوطنات.
في المقلب اللبناني من الحدود، طورت وحدات المقاومة من طبيعة نشاطها في تلك المنطقة. وهي أضافت تعديلات جوهرية على نقاط الانتشار وآليات الرصد بما يسمح لها بمتابعة لصيقة لكل نشاط قوات الاحتلال، والتثبت اليومي من كل ما يقوم به العدو، جيشاً ومستوطنين، على طول الحدود، وحتى عمق عشرات الكيلومترات. ومن الواضح أنه عندما اتخذ قرار الرد أواخر الصيف الماضي، درست قيادة المقاومة الخيارات الإضافية للرد على عمليات اغتيال أو محاولة اغتيال مقاومين في لبنان أو سوريا، وهو ما ظهر أنه جاهز الأسبوع الماضي.

«طرق الأبواب»
بينما كانت الشمس تختفي غروب الجمعة الماضي، كانت ثلاث مجموعات من المقاومة الإسلامية تتقدم صوب نقاط محددة على السياج الحدودي مع فلسطين المحتلة، منفّذة خطة معدّة مسبّقاً، بتسجيل «علامة استخبارية وعملانية» خاصة ضد تحصينات القيادة الشمالية لجيش الاحتلال.
وضمن مسافة تمتد لنحو 34 كلم (مسافة انتقال وليس خط نار) من قرب الوزاني شرقاً حتى أفيفيم غرباً، عملت المجموعات ضمن سرعة قياسية على إحداث ثلاثة خروق في السياج الإلكتروني الحدودي الذي عملت قوات الاحتلال على استحداثه وتطويره خلال العامين الماضيين.
النقطة الاولى تقع عند السياج الفاصل بين مستعمرة المطلة والمناطق المفتوحة أمامه باتجاه منطقة سهل الخيام أو تلك التي تقود الى الوزاني. تلك المساحة التي استخدمها العدو خلال عدوان تموز العام 2006، حين عبرت مدرعاته التي وقعت خلال دقائق في كمين قاتل في سهل الخيام.
النقطة الثانية تبعد عن الاولى نحو 20 كلم باتجاه الغرب، أي قبالة مستعمرة يفتاح المأهولة بالسكان على الحدود الجنوبية لبلدة ميس الجبل، وحيث سبق للعدو أن أنجز خلال العام الماضي مجموعة من الإجراءات الخاصة، منها تدخُّلٌ في طبيعة الارض هناك من أجل «تعقيد مهمة المتسللين» على ما قاله العدو سابقاً، وحيث يوجد موقع إسرائيلي لصيق وينشر نقاط مراقبة ورصد إلكترونية وحرارية متطورة للغاية الى جانب كمين لدبابة ميركافا.
قناصة العدو أطلقوا النار على الأغراض التي تركها المقاومون خلف السياج، فتبيّن أن فيها أسلاكاً لا طائل منها... وآلة تنظيف معطلة


وعلى بعد 13.5 كلم الى الغرب أيضاً، باتجاه بلدة عيترون اللبنانية، حيث المناطق الحرجية وبعض المنخفضات، تم ايضاً قطع السياج قبالة مستوطنة «يرؤون» (المقامة عل أنقاض بلدة صلحا) التي تبعد بضعة كيلومترات عن الحدود مع لبنان، وتجاورها غرباً مستعمرة برعام، وكلها تقع ضمن قطاع أفيفيم، حيث مقر قوات الاحتلال وحيث نفذت المقاومة أواخر الصيف الماضي عملية قنص مركبة للعدو بصاروخ موجّه. وميزة هذه النقطة أنها حرجية بخلاف النقطتين الاولى والثانية حيث المكان مفتوح بلا سواتر طبيعية يحتمي بها المقاومون.
خلال دقائق قليلة، كانت المجموعات قد عطّلت الكابلات التي توصل نقاط الخرق بمراكز المراقبة في مواقع قوات الاحتلال، قبل أن تحدث خرقاً عبر قطع السياج بأدوات مناسبة، ثم تركت خلفها كمية من الأكياس التي تُستخدَم لجمع النفايات، وبعض الأغراض التي جعلت العدو يستهلك أكثر من 24 ساعة في معالجة الخرق، من فحص الأمكنة والأغراض الموجودة الى إعادة إغلاق السياج. كان علم العدو سريعاً وأكثر سهولة في نقطتي المطلة وعيترون، لكنه أخذ وقتاً أطول في ميس الجبل، لسبب رئيسي، وهو أن حجم الخرق قبالة ميس الجبل كان كبيراً، وتجاوز ستة أمتار، ما يسمح بعبور آليات الى العمق الفلسطيني المحتل لا تسلل مجموعة مقاتلين حصراً. وفي هذه المنطقة، تمهّل العدو في إجراءاته بعد ساعات قليلة من اكتشاف الخرق، بعدما لاحظ وجود أجسام مشبوهة، ما تطلّب منه استنفاراً أكبر، واستدعاءً لقوات إضافية من سلاح الهندسة مع روبوتات تولّت معالجة الأغراض قبل الشروع في عملية إصلاح السياج.
عمل العدو في تلك الليلة على عدة جبهات:
الأولى، وحيث كانت الأولوية هي التثبت من عدم تسلل مقاتلين الى العمق. عمليات المسح الأمني والعسكري جرت بسرعة في مستوطنتي المطلة ويفتاح، الى جانب الأحراج والمساحات غير المسكونة في محيط يرؤون. وتم تفعيل أجهزة الرقابة على أنواعها، خصوصاً كاميرات المراقبة، وجُنِّد قصّاصو الأثر لمسح الارض والتربة والأحراج قبل أن يتأكد العدو من عدم حصول خرق بشري. كان على الوحدات العسكرية والأمنية تأكيد انطباع أوّليّ لدى جماعة الاستخبارات العسكرية لدى العدو، هو أن ما حصل ليس خطوة تستهدف القيام بعمل عسكري مباشر. واضطر جنود يتمركزون في مواقع قريبة الى إطلاق القنابل المضيئة من أجل مواجهة الإجراء القائم. الثانية، وجرت بعد عدة ساعات، حين استقدم العدو مجموعات من القناصة لإطلاق النار على الأغراض التي تركها المقاومون في المكان، وهي عبارة عن أكياس نايلون وصناديق كرتون عثر العدو داخلها على أسلاك من دون معنى، إضافة الى آلة تنظيف معطلة.

حجم الخرق قبالة ميس الجبل تجاوز ستة أمتار، ما يسمح بعبور آليات إلى العمق الفلسطيني المحتل لا تسلّل مقاتلين حصراً


وقد تواصلت قوات الاحتلال مع وحدة الارتباط في قوات الطوارئ الدولية لنقل طلبات الى الجيش اللبناني بالابتعاد عن المكان وضمان عدم اقتراب الاهالي ووسائل الإعلام من النقاط المعنية. ثم لجأ العدو الى استقدام روبوتات للكشف المباشر على الاجسام المشبوهة.
الثالثة، نشر دبابات في مواقع قتالية في مواجهة القرى الحدودية اللبنانية، وسط استنفار لكامل حاميات المواقع على طول الحدود، وخروج عدد من الطائرات المسيّرة الى سماء المنطقة، وتولّي مجموعات الهندسة في جيش الاحتلال إعادة إصلاح السياج في الثغر الثلاث.
لكن المشكلة لدى قوات الاحتلال في تلك المنطقة أنها معنية بإجراءات استثنائية لطمأنة المستوطنين، الذين أقنعتهم قيادة العدو بأن الأمور تحت السيطرة، خصوصاً بعد حفلة العلاقات العامة التي رافقت عملية «درع الشمال» لتهديم الأنفاق التي قال العدو إن المقاومة حفرتها على طول الحدود. وكان على قيادة العدو إعداد أجوبة سريعة على أسئلة مكثفة لمجالس المستوطنات والقيادات المحلية عن فعالية الإجراءات التقنية المكثفة التي تتخذها على طول الحدود، وعن مدى فعالية رفع الجدران الاسمنتية وإقامة مستويين من السياج الإلكتروني ونشر أجهزة استشعار واسعة، إضافة الى نقاط المراقبة المباشرة للجنود في مقاطع واسعة من الحدود مع لبنان. وهي إجراءات عمد العدو إلى تسويقها لدى المستوطنين في المنطقة ولدى الجمهور في «إسرائيل» على أنها عمليات ردعية تعطل قدرة المقاومة في لبنان على القيام بأعمال عسكرية في المنطقة الحدودية.