إلى أن تُجرى الاستشارات النيابية الملزمة الخميس المقبل، ويُعوَّم اسم مرشح لتكليفه تأليف الحكومة، تبدو الصورة الحالية لها غير مألوفة وغير مسبوقة. عزم رئيس الجمهورية ميشال عون على توجيه الدعوة إليها هذا الأسبوع، فأتاه اقتراح بتمديد موعدها أسبوعاً كاملاً، يُفسح في المجال أمام طرح اسم أو أكثر للتكليف. مع ذلك لا سابقة تشبه الآن.ما اعتاده مجلس النواب، صاحب الاختصاص في ترشيح رئيس مكلف، أن يذهب إلى الاستشارات الملزمة، وهو عارف سلفاً بمَن سيسمّيه، والمرجعيات التي سمّته قبله. حدث ذلك في الحقبة السورية الطويلة، حينما كانت دمشق هي التي تختار الرئيس المكلف، وتوعز إلى حلفائها رؤساء الكتل النيابية الرئيسَة تسميته، فإذا الصلاحية الدستورية للبرلمان واهية ووهمية. لا يملك أن يطرح اسم مرشح آخر، ما خلا استثناءات نادرة لأصوات تقلّ عن أصابع اليد الواحدة. استمر هذا التقليد في مرحلة ما بعد عام 2005، واستقر منذ اتفاق الدوحة بعد ثلاث سنوات.
اليوم يُدعى البرلمان إلى المَهمة نفسها، لكن بلا رئيس مكلّف، ما فتح باب التكهّن ـــ بسبب هذا الغموض ـــ للحديث عن احتمال تأجيلها. إلى الآن، يصرّ رئيس الجمهورية على الموعد دونما افتراضه أن ثمّة مشكلة دستورية ـــ ولا مبرّر لأن تكون ـــ لمجرد أن ليس أمام النواب مرشح لتكليفه تأليف الحكومة.
ليس في المادة 53 من الدستور، المعدّلة عام 1990 بانتقال الصلاحية من رئيس الجمهورية إلى مجلس النواب، ما يحمل على توقّع حصول إشكالية دستورية من جراء عدم ظهور مرشح مكلف عند لحظة بدء الاستشارات الملزمة. لا تتطلّب المادة 53 إعلان ترشيح على غرار المادة 49 التي لا تلزم ترشيحاً لرئاسة الجمهورية، ولا تفرض نصاباً محدّداً للفائز بالتكليف كأن يكون النصف +1. يفوز بالتسمية المرشح الذي يحوز غالبية أصوات النواب، بما لا يجعل عدد المشاركين في الاستشارات الملزمة يقلّ عن نصاب الأكثرية المطلقة منهم، كي يحظى ذلك الفائز بموافقة نصف المجلس + واحد على الاستشارات كاستحقاق في ذاته، في معزل عن عدد مؤيديه. ذلك يعني أن في وسع مرشح واحد الحصول على أقل من نصاب الأكثرية المطلقة من الأصوات كي يفوز بالتسمية. في وسع أكثر من مرشح تقاسم أصوات النواب المشاركين في الاستشارات الملزمة، والحصول على أكثرية نسبية من المصوِّتين، فيفوز صاحب العدد الأعلى منها. لا تقلّل ضآلة عدد الأصوات من شرعية التكليف، بيد أنها تؤثر على علاقة الرئيس المكلف بمجلس النواب وكتله. حاز الرئيس رفيق الحريري عام 1998، في مطلع عهد الرئيس إميل لحود على 64 صوتاً تقلّ عن نصاب الأكثرية المطلقة، فامتعض واعتذر، بينما حاز الرئيس نجيب ميقاتي على 57 صوتاً عام 2005 في عزّ انشطار البلاد بين قوى 8 و14 آذار وألّف حكومته الأولى.
لا ثغرة دستورية في الآلية هذه في المادة 53 التي تلزم رئيس الجمهورية، أياً يكن عدد الأصوات وعدد المرشحين، تدوين محضر خطي بمَن سمّاه أمامه النواب ويحتسب عدد الأصوات، ثم يستدعي الرئيس المكلف. بسبب الإصرار على تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية في مداولات اتفاق الطائف، انتقلت الصلاحية الدستورية منه إلى مجلس النواب، كي يقال بأنه هو ـــ لا رئيس الجمهورية ـــ ينتخب رئيس الحكومة.
بيد أن الآلية هذه لم تكن يوماً ذات جدوى لعدم تطبيقها، في الحقبة السورية كما في التي تلتها، ولم تعدُ كونها سوى حبر على ورق. لم يمارس مجلس النواب اختصاصه هذا، ولا انبثق منه الرئيس المكلف ـــ أي رئيس مكلف ـــ بل دُعي إلى تكريس ما تكون قرّرته سوريا حتى عام 2005، أو ما نجم عن اتفاق الفريقين السنّي والشيعي مذّاك إلى اليوم بالذات. في سبيل ذلك لم تكن تسمية الرئيس المكلف منذ عام 1990 ذات مغزى، ولا اكتسب الرجل أي مكانة ذات أهمية ما خلا تحوّله إلى أداة للوصول إلى الهدف الجوهري، وهو تأليف الحكومة. من باب المبالغة حتماً القول، مذّاك إلى اليوم، إن رئيس الجمهورية والرئيس المكلف هما اللذان اختارا حكومتهما انسجاماً مع صلاحياتهما الدستورية.
ليس خافياً أن دمشق هي التي وزّعت، ما بين عامَي 1990 و2004 حصص الحكومات التي أشرفت عليها في عهدَي الرئيسين الياس هراوي وإميل لحود. لكل من الرؤساء الثلاثة حصته في التوزير بأسماء لا تغضبها، إن لم تتمنَّ هي اختيارها. أما الباقون، ففي حصتها من أجل حصولها على غالبية الثلثين، والإمساك بدفة السلطة الإجرائية برمّتها. ليس عبثاً القول بأن أحداً من رؤساء الحكومات المتعاقبين مذّاك، لم يجهر ولا رئيسا الجمهورية المتعاقبان ـــ ربما باستثناء حكومة الرئيس سليم الحص عام 1998 ـــ بأنهم هم الذين ألّفوا حكوماتهم. بدوره الحريري الأب، من أولى حكوماته عام 1992 إلى آخرها عام 2003، ظلّ يشكو ويتذمّر من أن معظم وزرائها فُرضوا عليه باستثناء حصته القليلة السمنة.
عدم وجود مرشّح للاستشارات الملزمة لا يُرتب مشكلة دستورية، بل مأزقاً سياسياً


منذ عام 2008، لم يعد أحد في أي حكومة جديدة يتحدّث عن غالبية الثلثين، تحت وطأة انقسام سنّي - شيعي توزّع التعريف عنه فريقا 8 و14 آذار. من جراء حساسية التناحر المذهبي، أضحى الفيتو المتاح ـــ بعدما كان الثلثان عند دمشق ـــ هو الثلث المعطل. ذلك ما شهدته الحكومات المتعاقبة. ارتسمت إذّاك المعادلة التي لم يقل بها اتفاق الطائف، بل وارثه اتفاق الدوحة بدءاً من عام 2008، وهي أن توازن القوى على الأرض، السنّي - الشيعي في أصله، هو المُعادل الفعلي للصلاحيات الدستورية. ذلك ما كان يفسّر منذ عام 2008 أن الكتل الرئيسَة هي التي تختار الحقائب والوزراء، وتفرض حصتها على الرئيس المكلف.
من دون موافقة الطرفين السنّي والشيعي، لا حكومة تبصر النور. ذلك ما بات يحدث أيضاً مع انتخابات رئاسة الجمهورية ليُمسي في ذاته تقليداً. لولا انضمام الرئيس سعد الحريري إلى حزب الله في تشرين الأول 2016 وتأييد انتخاب الرئيس الحالي للجمهورية، لكان لا يزال مذّاك مرشحاً للرئاسة فحسب. مع الثنائي الفعلي، السنّي - الشيعي، كل حكومة يقتضي أن تكون حكومة وحدة وطنية. قوة هذا المُعادل هو الذي قاد حكومة الرئيس فؤاد السنيورة عام 2005 ـــ وكانت حكومة غالبية قوى 14 آذار ـــ إلى التسبّب في ما حدث في 7 أيار 2008. كذلك تجربتا حزب الله وحركة أمل مع حكومة اللون الواحد مرتين على التوالي، عامَي 2011 مع الرئيس نجيب ميقاتي و2020 مع الرئيس حسان دياب، بلغتا مأزق تعذّر الحكم بهما من جراء مقاطعة الفريق السنّي المعترف بأنه يمثّل الطائفة لهما، وهو الحريري الابن وتياره. على نحو مقلوب، سقطت تجربة تكليف السفير مصطفى أديب الشهر المنصرم، بسبب إصرار الفريق السنّي على أنه هو مَن يريد تأليف الحكومة ويقرّر الحصص والحقائب، فرفع الثنائي الشيعي عصا فيتو الكفيلة بتقويض التكليف قبل الوصول إلى التأليف.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا