منذ شهرين فُضّت العروض التقنية الخاصة بالمناقصة التي أطلقتها «تاتش» للتعاقد مع شركة خدمات خارجية لتأمين 70 موظفاً لمركز الاتصالات (Call Center). لكن حتى اليوم، لم يتم الانتقال إلى مرحلة فض العروض المالية. الخلاف بشأن نتيجة المرحلة الأولى أدّت إلى تشكيل ثلاث لجان كان تقييمها مختلفاً. مجموعة من المديرين تدفع باتجاه السير بالنتيجة الأولى، والمديرة العامة تحمل في يدها تقييمين يخالفان رغبة هؤلاء. لكن بين هذا وذاك، ثمة من يسأل لماذا اللجوء إلى الخدمات الخارجية أصلاً، في حين أن الشركة قادرة على تشغيل المركز بقدراتها الذاتية، وبما يؤدي إلى توفير ما يزيد على مليون دولار سنوياً؟
منذ تشرين الأول 2020 صارت الدولة تدُير قطاع الخلوي بشكل مباشر. ذلك كان مطلباً أهلياً، سعى إليه وناضل من أجله كثر. الهدف كان ببساطة وقف الهدر في قطاع وُصف يوماً بأنه نفط لبنان. الهدر أسبابه عديدة، أبرزها أن الطبيعة القانونية للشركتين (شركتان خاصتان تملكهما الدولة لكن تخضعان للقانون التجاري)، سمحت بفتح صناديق الشركتين للتنفيعات السياسية والمالية، من دون رقيب أو حسيب. فلا هما تخضعان للآلية الرقابية التي تخضع لها الإدارات والمؤسسات العامة، ولا هما، بالممارسة، شركتان مستقلتان عن القرار السياسي. ببساطة، الشركتان تشبهان البلد، كل فريق سياسي له فيهما من يدير مصالحه، إن كان توظيفاً أو عقوداً. همزة الوصل في هذه العملية هو وزير الاتصالات. مفتاح سلطته هو توقيعه. إذا لم يكن «راضياً» يستطيع أن يُعرقل عمل الشركتين، وهذا يجعله متحكماً في القرار بشكل كبير، حتى قبل تسلم الدولة للقطاع.
اجتماعات لجنة الإعلام والاتصالات النيابية كشفت أنه على مدى أشهر وسنوات كانت صناديق الشركتين مفتوحة على هدر وسمسرات بعشرات ملايين الدولارات. وبعد تسلّم الدولة للقطاع، كل ذلك اختلف، لكنه لم يتوقف. لا إحصاءات دقيقة عن مقدار التوفير. لكن ذلك لا يعني أن العقلية التي تدير الشركتين قد تغيّرت. ما تغيّر فعلاً هو تداعيات الأزمة المالية، التي فرضت نفسها على أداء الشركتين. العقود الجديدة خفّت وتيرتها، والمتعهدون الحاليون صاروا يصارعون للحصول على أموالهم بالدولار، فيما كل طرف في الإدارة يسعى إلى تمييز من يخصّه بهذه الدفعات.
هذه المشكلة تبدو جلية أكثر في «تاتش». فشركة «زين» التي كانت تديرها، رفضت الدفع للمتعهدين في الأشهر الأخيرة، بحجة عدم توقيع العقد معها، بعكس شركة «أوراسكوم» التي كانت تدير «ألفا». ذلك خلق عند «تاتش» مشكلة لم تعالج حتى اليوم. لو دفعت للمتعهدين في الوقت المناسب، لما وجدت مشكلة الدفع بالدولار أو بالليرة، فبعض المتأخرات تعود إلى بداية 2019. التأخير فاقم قيمة المبالغ المستحقة على الشركة، التي صارت أغلب مداخيلها بالليرة. ولذلك، بدأت مرحلة المفاضلة بين المتعهدين. من يقبض بالدولار النقدي ومن يقبض باللولار ومن يقبض بالليرة. المشكلة أن في الإدارة من يصرّ على الدفع للمحظيّين بالدولار، حتى لو لم يكونوا مستحقين. لكن في الأغلب، فإن المدفوعات تتم إما بالليرة أو بالدولار. وهذا يؤدي إلى اعتراض شركات عديدة، وتعسّر أخرى. على سبيل المثال، فإن «تاتش» تواجه حالياً احتمال توقّف مركز الاتصالات عن العمل (Call Center) أو تراجع جودة خدماته. فشركة TelePerformance (تابعة لـ»فتّال» غروب) التي كانت تقدم الخدمات الخارجية للمركز (مسؤولة عن تأمين حاجته من الموظفين) توقفت عن العمل. وبحسب المعلومات، فإن المشكلة بدأت بعد أن صار العاملون في المركز من موظفي الشركة يتقاضون رواتبهم على سعر 1500 ليرة للدولار، فيما موظفو «تاتش» يحصلون على رواتبهم بالدولار. وعندما طلبت تعديل العقد تأميناً للمساواة بين العاملين في المركز نفسه، رفضت «تاتش»، مشيرة إلى أنه لا يمكن تعديل العقد إلا في حال إجراء مناقصة جديدة. عندها أعلنت الشركة أنه في حال إطلاق مناقصة ستنسحب، وهو ما حصل.
1.4 مليون دولار يمكن توفيرها إذا استعانت «تاتش» بقدراتها الذاتية


هنا لم تلجأ إدارة «تاتش» إلى قدراتها الذاتية لتأمين حاجتها من الموظفين لإدارة المركز، بالرغم من أن القاصي والداني يدرك أن لديها فائضاً من الموظفين الذين يقبضون ولا يعملون. وهذا سمعه كل أعضاء لجنة الاتصالات، بشكل رسمي، من وزير الاتصالات السابق محمد شقير، الذي أشار إلى وجود 500 موظف في الشركتين لا يعملون. لكن مع ذلك، فضّلت إدارة «تاتش» إجراء مناقصة للحصول على خدمات 70 موظفاً متعاقداً يضافون إلى موظفي الشركة المسؤولين عن إدارة المركز. حجة البعض كانت أن التوظيف الانتخابي أسهم في إدخال عدد كبير ممن لا يحملون أي مؤهلات، وبالتالي لا يمكن ضمان تأمين خدمة ذات جودة عالية إذا ما استعين بهؤلاء، علماً بأن ذلك ينفيه عاملون في الشركة، يعتبرون أنه بالرغم من توظيف بعض غير المؤهلين، إلا أن الأغلبية كانت من حملة الشهادات، وبالتالي فإن جل ما يحتاجون إليه للعمل في مركز الاتصالات هو دورة تدريبية لـ15 يوماً. وللتذكير، فإن العاملين في مركز الاتصالات كانوا تاريخياً من موظفي الشركة. وهو الأمر المعمول به حالياً في شركة «ألفا»، فـ«ميك 1» تعتمد على قدراتها الذاتية لتشغيل مركز الاتصالات، من دون أن يؤدي ذلك إلى تقديم خدمة أقل جودة عن الخدمة المقدمة في «تاتش».
بالنتيجة، شاركت في المناقصة أربع شركات، هي: Telesupport وAkorn وCplus وVoccity. الشركة الأخيرة أنشئت قبل أشهر قليلة من المناقصة. أما شركة Cplus، وهي شركة التنظيفات المتعاقدة مع «تاتش»، فقد طلب منها التقدم إلى المناقصة، في ما بدا محاولة لزيادة عدد المتقدّمين وإضفاء شرعية على المناقصة.
عندما فتحت العروض التقنية في 16 آذار الماضي، سريعاً تم إقصاء Voccity، لأسباب تتعلق بعدم مطابقتها لشرط مرور سنتين على تاريخ الإنشاء، وبسبب ما تردد عن ارتباط أصحابها بموظفين في «تاتش». لكن مع ذلك كان السبب الرسمي لاستبعاد لجنة دراسة العروض التقنية للشركة هو إرفاق السعر بالعرض التقني.
بالنتيجة، كان العرضان الجديان هما عرضي الشركتين الأولين، أي TeleSupport وAkorn. وقد قررت لجنة التلزيم إعطاء الأولى العلامة الأكبر أي 96 في المئة، مقابل 52 في المئة لـ«أكرون»، من دون أن يكون هنالك أي أسس واضحة للتقييم.
اعترضت شركة «أكرون» أمام وزير الاتصالات، على اعتبار أن هذه النتيجة، تحدد سلفاً اسم الفائز بالمناقصة بصرف النظر عن قيمة العرض المالي. إلا أن الوزارة دعت إلى السير بالنتيجة لأنها لم تجد فيها أي عيب يستدعي إعادة النظر فيها. لكن بحسب المعلومات، أصرّت «أكرون» على تقديم اعتراض رسمي إلى كل من وزير الاتصالات وإدارة «تاتش»، معتبرة أنها تقدّمت من دائرة المناقصات بكامل المستندات المطلوبة، وبالرغم من ذلك لم يكن التقييم منصفاً، لأنه أعطى الأفضلية لشركات أخرى من دون أن تتضح آلية التقييم التي اعتمدت. وعليه، طالبت بإلغاء التقييم.
تلك الرسالة أربكت «تاتش». وبحسب المعلومات، فإن مديرتها العامة حياة يوسف لم تتردد، عندما وصلها الاعتراض، في تعيين لجنة جديدة لإعادة التقييم. وبالفعل، تبيّن للجنة التي ضمت المديرة السابقة لمركز الاتصالات باتريسيا انطون، أن شركة «أكرون» تستحق علامة أعلى، فأعطتها 100 في المئة. تلك النتيجة أدت إلى اعتراض كبير من قبل مديرة المشروع رولا أبو ضاهر، التي أصرّت على النتيجة الأولى، مدعومة من مديرين آخرين. وعلى الأثر، عمدت يوسف لتعيين لجنة جديدة ضمت بسام قبيسي ونجوى زيدان، فجاءت النتيجة مجدداً صالح Akorn.
لم يصدر أي جديد بعد. وبعد مرور شهرين على فض العروض التقنية، لم تُحسم نتيجتها. ثمة ثلاثة مواقف تتصارع؛ الأول يصرّ على النتيجة الأولى، لكنه لم يعد قادراً على الدفاع عن موقفه، بعد نتيجة التقييمين الجديدين، والثاني يطالب باعتماد النتيجة الجديدة، ثم فتح الملفات المالية لتحديد اسم الفائز، والثالث يطالب بإعادة المناقصة التي يتكفّل من يربحها بتأمين 70 موظفاً للمركز مع إجراء التدريب اللازم لهم، من دون أن يكون لها أي علاقة بإدارة المشروع. وإلى أن يتضح مآل الأمور، ثمة من يسأل: هل تحتاج شركة «تاتش» إلى موارد خارجية لتشغيل مركز الاتصالات 111؟ الجواب عند عاملين في القطاع هو «حكماً لا، فالشركة إذا كانت حريصة على ضبط الإنفاق فلديها ثلاث طبقات من التوفير، بالتعاون مع وزارة الاتصالات: إما العمل على توحيد هذه الخدمة بين شركتي الخلوي، وهو أمر لا يحتاج إلى جهد كبير ويوفر نصف الكلفة على الأقل. وإما الاعتماد على القدرات الذاتية للشركة، وهو أمر ممكن نظراً إلى الفائض الكبير ويوفر نحو مليون و400 ألف دولار مصرفي سنوياً (علماً بأن المركز يدار حالياً من قبل موظفي «تاتش») ستحصل عليها الشركة التي تفوز بتقديم هذه الخدمة. وفي الحد الأدنى، ومع افتراض صحة عدم قدرة موظفي الشركة على القيام بالمهمة، يمكن للشركة أن تقوم بنفسها بتوقيع عقود مع الكادر الوظيفي لشركة Teleperformance أو تتعاقد مع آخرين. بشكل أدق، يمكنها أن توقع مع هؤلاء العقود نفسها التي ستوقعها معهم أي شركة تفوز بالمناقصة، بما يسمح بتوفير نحو 10 في المئة من قيمة العقد هي أرباح الشركة الوسيطة.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا