يوماً بعد آخر، يثبت حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، أنه مجرّد «كشتبنجي» قامر بحياة المواطنين حتى آخر «نقطة» دعم، ونفض - في آخر المطاف - يده من صحتهم. فعلها سلامة أمس، عندما خرج ببيانٍ مقتضبٍ، معلناً - بلا مواربة - انتهاء مرحلة الدعم والبدء بمرحلةٍ أخرى عمادها ما تبقّى من أموال المودعين، والتي تأتي ضمن ما اصطلح على تسميته بأموال «الاحتياطي الإلزامي». وكان نصّه أشبه باعترافٍ ينهي سنواتٍ من المكابرة امتهنها ولا يزال حتى هذه اللحظة.[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
هكذا، بلا مقدمات، ومن خارج «الأجواء الإيجابية» التي سادت في الأيام الأخيرة، أصدر مصرف لبنان بياناًَ أعلن من خلاله أن الكلفة الإجمالية المطلوب منه تأمينها للمصارف لدعم استيراد الأدوية والمستلزمات الطبية وحليب الرضع والمواد الأولية للصناعة الدوائية «لا يمكن توفيرها من دون المساس بالتوظيفات الإلزامية للمصارف»! وهذا يعني أن سلامة يريد وضع استمرار الدعم في المرحلة المقبلة في مقابل حقوق المودعين، علماً بأنه يغطي قرار المصارف الامتناع عن دفع الودائع لأصحابها، بعدما بدّد مع «البنوك»، الجزء الأكبر من تلك الودائع.
في الشكل وفي المضمون، ألقى الحاكم الكرة من يده ورماها في ملعب «السلطات المعنية لإيجاد الحل المناسب لهذه المعضلة الإنسانية والمالية المتفاقمة». وقد بنى «عجزه» هذا على سلسلة أرقامٍ دفعها المركزي منذ الأول من كانون الثاني من العام الجاري وحتى العشرين من الشهر الحالي. وفي هذا السياق، لفت إلى أن المبالغ التي تمّ تحويلها إلى المصارف خلال تلك الفترة لاستيراد الدواء والمستلزمات الطبية والمواد الأولية للصناعة الوطنية بلغت «485 مليون دولار أميركي، و535 مليوناً قيمة الملفات المرسلة إلى مصرف لبنان»، يضاف إليها منذ بدء العمل بآلية الموافقة المسبقة «290 مليون دولار أميركي قيمة 719 طلباً»، بحيث أصبح إجمالي الفواتير يساوي أكثر من 1.2 مليار دولار. وهو رقم لا يأتي كـ«نسخة طبق الأصل» عما أحصته وزارة الصحة العامة من أرقام. فما الذي يريد قوله مصرف لبنان من خلال تلك الفاتورة التي وازت في خمسة أشهرٍ ما كان يصرفه لبنان على فاتورته الدوائية خلال عامٍ كامل ما قبل الأزمة؟ وماذا يعني ذلك؟ إنها «فرطت»، يقول رئيس لجنة الصحة النيابية، الدكتور عاصم عراجي، مشيراً إلى أن «الوضع اليوم مأساوي بات معه الأمن الصحي على كفّ عفريت». أما وزارة الصحة، وبصرف النظر عن نوايا المركزي، فما تحفظه اليوم هو نص الاتفاق مع الأخير «على آلية الاستيراد، حيث ستعمل الوزارة على تزويد المركزي بالملفات التي تحتاج إلى استثناءات لدعمها بحسب حاجة السوق والأولويات». ما دون ذلك، «لا يستطيع مصرف لبنان أن يضعنا أمام الخيار الصعب، انطلاقاً من إنو ما فيك تقطع الدوا»!
بلغت قيمة فواتير الدواء المخزّنة في المستودعات قبل صدور آلية الموافقة المسبقة 180 مليون دولار


مع ذلك، وعلى المقلب الآخر، جاءت «الانفراجة» من وزارة الصحة العامة، أمس، مع تحصيل موافقة من مصرف لبنان على دعم 1500 فاتورة أدوية مخزنة في مستودعات المستوردين، والتي كانت قد وصلت إلى لبنان وسُجّلت قبل صدور تعميم المركزي المتعلق بضرورة الحصول على الموافقة المسبقة، والبالغة قيمتها ما يقارب الـ180 مليون دولار أميركي. أما الأمل في تلك الانفراجة، فهو أن الفواتير العالقة في المستودعات تغطي معظم أصناف الأدوية وأصناف حليب الأطفال المفقودة في السوق، ويبدأ توزيعها صباح اليوم بإشراف الوزارة. ومن المفترض أنه بموجب الاتفاق بين الوزارة والمستوردين من جهة والمصرف من جهة أخرى، ستكون الوزارة «هي الجهة المسؤولة عن تحديد أولويات المشتريات الدوائية كمّاً ونوعاً وفق حاجة سوق الدواء»، على أن تتابع تالياً «تحديد المخزون المتوفر من كل الأصناف بما لا يسمح بسوء استخدام الدعم، حرصاً على استمراره وتماشياً مع البيان الصادر أمس عن مصرف لبنان والذي سلط الضوء على حتمية إعادة التوازن إلى سوق الدواء».
أما طريق الوصول إلى الحالة الراهنة، فقد تطلب اجتماعات مع حاكمية المصرف، حيث طلب الأخير من وزارة الصحة إعداد لائحة بحاجات السوق من الأدوية، كما تحديد الأولويات. وقد عملت الوزارة على تشكيل لجان متخصّصة لإعداد هذه الجداول وتحديد مكمن الشح الحاصل، والكشف على الفواتير المقدمة إلى مصرف لبنان قبل إقرار الآلية لمعرفة كمية الأدوية المخزنة وأنواعها للبناء عليه في تحديد الأولويات والحاجات. وبعد أيامٍ من العمل، رفعت أمس الوزارة إلى حاكمية المصرف الجداول النهائية التي وضعت من ضمن أولوياتها الأدوية الحافظة للحياة، بما فيها أدوية الأمراض المستعصية والمزمنة والحالات الحادة.
انتزعت وزارة الصحة الإقرار انتزاعاً، في محاولة لإعادة تصويب المسار، ومنعاً «لأي التباس»، خصوصاً في ما يخص الصلاحيات، التي أعاد التذكير بها حسن، أمس في مؤتمره الصحافي المشترك مع رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر، والتي تتعلق بـ«دور وزارة الصحة في تحديد الأولويات الدوائية، على أساس أنها المرجعية الصحية والدوائية، ومن غير المقبول أن تسلم الوزارة اللوائح لتفند جهة في المصرف في الأولويات الواردة فيها». هذه السياسة «العجيبة» التي اتبعها المصرف والتي تعطي على سبيل المثال «موافقة لدواء قبل أن يصل إلى لبنان، فيما تطلب موافقة مسبقة لأدوية مهمة ومطلوبة وموجودة في المستودعات».
إلى ذلك، أعلنت رئيسة مصلحة الصيدلة في الوزارة، كوليت رعيدي، عن المباشرة بخطة جديدة لاستيراد الدواء، ابتداءً من مطلع حزيران المقبل، والتي يأتي في مقدمها استعادة وزارة الصحة لصلاحياتها «لناحية منع أي أحد من طلب أي شيء والاستيراد من دون الرجوع إليها»، على ما يقول حسن. أضف إلى ذلك أن هذه الخطة مبنية، بحسب رعيدي، على جملة من الأولويات منها «أهمية الدواء والعيار والكميات، بحيث يصار إلى مقارنة الكمية المطلوب استيرادها مع مصروف السنوات الثلاث السابقة للتأكد من حجم المخزون والسماح باستيراد الدواء».