حوالي الـ830 ألف حساب مصرفي، ومليار دولار ودائع، وما قيمته 120 مليون دولار كموجودات، هي أرقامٌ تُشكّل واقع مصرف «جمّال ترست بنك» لحظة اتّخاذ القرار بتصفيته في أيلول سنة 2019. تقدّمت إدارة المصرف بطلب تصفيةٍ ذاتيّة إلى مصرف لبنان بعد أن قرّرت الولايات المتحدة الأميركية زيادة الضغوط على القطاع المصرفي اللبناني، من خلال استهداف «جمّال ترست بنك»، فأدرجته وزارة الخزانة الأميركية على لائحة العقوبات في 29 آب 2019. التُّهمة العلنية كانت أنّ «المصرف ضالعٌ في رعاية وتقديم الأموال لحزب الله ودعمه تكنولوجيّاً، ويُقدّم خدماتٍ مالية للمجلس التنفيذي لحزب الله ومؤسّسة الشهداء».«هل أنت مُهتّم بالإشراف على تصفية الجمّال؟»، رسالةٌ نصيّة بعث بها باللغة الإنكليزية الحاكم رياض سلامة، إلى نائبه السابق، محمد بعاصيري. وافق الأخير على المهمّة، شرط أن يتبادل التّقارير والتطورات التي لها علاقة بتصفية «جمّال ترست بنك» مُباشرةً مع سلامة من دون المرور بأي وسيط. لماذا بعاصيري؟ تحليل المُطّلعين على الملف يقود إلى سببين: «أولاً، اعتبار سلامة أنّه بهذا الخيار يُرضي الأميركيين، نظراً إلى علاقة بعاصيري اللّصيقة بهم (وضعت سفيرة الولايات المتحدة في بيروت دوروثي شيا، العام الماضي، معادلة «لا بعاصيري لا دعم مالي» للضغط وإعادة تعيينه نائباً لحاكم مصرف لبنان). ثانياً، خبرته المصرفية وتسلّمه سابقاً هيئة التّحقيق الخاصة في «المركزي» ولجنة الرّقابة على المصارف».
بقي 10 ملايين دولار من أصل مليار دولار ودائع لدى «جمّال» لم تُسدّد


وُضعت ثلاثة خيارات على الطاولة لتصفية «الجمّال»:
1- أن يتملّكه أحد المصارف. تعذّر ذلك بسبب وضعه على «لائحة العقوبات» وتمويل حزب الله.
2- إخضاعه للقانون 2/67 «إخضاع المصارف التي تتوقّف عن الدفع لأحكام خاصة». استُبعد هذا الخيار لعدم جرّ القضيّة في المحاكم لسنوات.
3- تطبيق القانون 110 «إصلاح الوضع المصرفي»، والاستناد إلى المادة 17 منه لناحية كفاية الموجودات لتغطية المطلوبات، وأن يعود الفائض الذي يُمكن أن ينتج عن تصفية الموجودات ودفع الحقوق، إلى مصرف لبنان. وهو ما حصل في حالة «الجمّال».
بعد قُرابة السّنتين على انطلاق عمليّة التّصفية، لا يبقى عالقاً «سوى ودائع بحدود 10 ملايين دولار من أصل مليار دولار، أصحابها إمّا خارج لبنان أو لم تُختتم ملفّاتهم»، يقول أحد المسؤولين عن التصفية. دُفعت حقوق المودعين بموجب شيكات مُحرّرة بالليرة اللبنانية على أساس سعر الصرف الرسمي 1507.5، أكان الحساب بالدولار أو الليرة. كان لدى الـ«جمّال» سيولةً كافية، أمّا حين استُنزف الكاش «سَلَّفنا البنك المركزي مبالغ بالليرة لقاء رهن موجودات المصرف له». وفي هذه الأثناء تمّ الاتفاق مع مصارف تجاريّة «لتوافق على إعادة تحويل شيكات الزبائن الذين كانوا يملكون حسابات بالعملات الأجنبية ــــ وحُرّرت لهم وديعتهم بالليرة ــــ إلى عملتها الأصلية على أن تُجمّد الوديعة لفترة زمنية محددة، وتقبل بإيداع باقي شيكات الزبائن. بعض المصارف رفضت التعاون خوفاً من أي ردّة فعل أميركيّة مستقبليّة، فقام مصرف لبنان بصرف الشيكات لهؤلاء الزبائن». بالتوازي، تمكّنت الإدارة المؤقّتة على «جمّال ترست بنك» من تحصيل العديد من القروض المتعثّرة، أعادت تخمين العقارات بسعر أعلى من ذلك الذي وضعه «المركزي»، فبيعت وتمكّنت من ردّ القرض الذي كانت قد حصلت عليه من مصرف لبنان «مع تسجيلها فائضاً في الحسابات».
ليس الـ«جمّال» أوّل مصرفٍ لبناني يخضع لعمليّة تصفية ذاتيّة، أي مبادرة أصحاب المصرف إلى إعلان عدم قدرتهم على الدّفع. حين تمتنع المصارف حاليّاً عن ردّ الودائع بالعملات الأجنبية، وتقنين السّحوبات باللبناني، ألا يعني هذا إفلاسها، وبالتالي الدّعوة إلى تصفيتها «إنصافاً» لما تبقّى من حقوق المودعين ولإعادة إطلاق الاقتصاد؟
«ضدّ سياسة الترقيع»، يُجيب أحد المسؤولين عن تصفية «جمّال»، مُعتبراً أنّ التصفية الذاتية لا تنفع مع قطاعٍ مصرفي انهار بشكلٍ كامل «ولا أعرف كيف يسمح رياض سلامة بأن يبقى المسؤولون عن المصارف في مراكزهم». الحلّ الجذري «الوحيد لاستعادة الثّقة هو في إعادة هيكلة المصارف، ومصرف لبنان، بالتوازي مع المحادثات مع صندوق النّقد الدولي، ولكن يبقى الأساس تشكيل حكومةٍ تُعيد تحديد الخسائر حتى توضع ميزانيّاتٍ واقعيّةٍ للمصارف. لا شيء يمنع لجنة الرّقابة على المصارف في هذه الأثناء من دراسة حالة كلّ مصرف على أُسسٍ محاسبيّةٍ شفّافة وترسم صورةً أوّلية للقطاع (بانتظار أرقام الحكومة الجديدة، بعد نَسف خطة الإصلاح المالي لحكومة حسّان دياب وفيها تحديد للخسائر، التي لم تُعجب مصرف لبنان والمصارف وكبار المودعين)، لأنّه حالياً لا وجود لميزانيّةٍ تعكس الواقع».

تهرُّب المصارف من إعادة الهيكلة عبر إعلانها خسارة رساميلها


وتُضيف مصادر مصرفيّة بأنّ «الودائع لدى المصارف التي تخضع للتصفية ستُدفع بموجب شيكات تُسحب على مصرف لبنان، هو بات عاجزاً عن دفعها. وضع المصارف كارثي، وحتّى تلك التي تمكّنت من تحسين سيولتها إمّا ببيعها وحداتٍ خارجية (كـ«بلوم» وعوده) أو سُدّد لصالحها ديون خارجية كانت مستحقّةً (كحالة بنك بيروت في السودان) أو شراء الدولار من السّوق والقيام بخزعبلات في ميزانيّاتها للإيحاء بعدم الافلاس».
من جهته، يقول وزير الاقتصاد السابق، منصور بطيش إنّه يجب طرح سؤال «القيام بإعادة هيكلة أو تصفية على أي أساس؟ ما هو دور المصارف في المرحلة المقبلة؟ هذا هو الكباش الأساسي. في حالات معينة، قد تكون التصفية خياراً، ولكن أكيد مع إدارةٍ للأزمة تختلف عمّا هو موجود لدينا». المطلوب هو أن تكون «المصارف رافعةً للاقتصاد الحقيقي بما يساهم بزيادة الإنتاج المحلّي سِلعاً وخدمات وتكنولوجيا ويخلق فرص عملٍ جديدة للبنانيين في بلدهم، وذلك عوض أن يكون في خدمة اقتصاد الريع والذي أوصلنا إلى المأزق الحالي».
منذ أوائل العام 2020 خفّضت المصارف الفوائد على الودائع إلى معدّل 1.6% على الودائع بالليرة و0.7 % على الودائع بالدولار. وفي المقابل، خسرت فقط الفوائد على اليوروبوندز (سندات الدين بالعملات الأجنبية)، فيما حافظت على الفوائد التي تحصل عليها من اكتتاباتها بسندات الخزينة بالليرة وتوظيفاتها لدى مصرف لبنان، واستخدمتها لتكوين مؤونات. الأرقام تسمح بالتّقدير، بحسب خبراء، أنّ المصارف حقّقت ما بين سنتَي 2020 و2021 ما بين 4 و 5 مليارات دولار أرباحاً إضافيّةً ناتجة عن الفوارق في الفوائد.
ماذا تعني هذه الأرقام؟ يقول بطيش «إنّها تعكس جُزءاً هامّاً من الكلفة بتوزيع الخسائر العامة». يقول أصحاب المصارف إنّهم خسروا رساميل مصارفهم التي كانت قيمتها قبل انهيار سعر الليرة 23 مليار دولار، وهم بذلك يوجّهون رسالة بأنّهم دفعوا حصّتهم من الخسارة وليسوا بحاجة لأي إعادة هيكلة». بهذه الطريقة، تكون معظم المصارف « نفذت بريشها وليس فقط 6 أو 7. هذا تأكيٌد جديد للشراكة بين حاكم مصرف لبنان والمصارف».
قد يُحاجج البعض بأنّ تصفية المصارف بعد انهيار الليرة يُشكّل ضرراً للمودعين، لأنّ الودائع ستُردّ وفق سعر الصرف «الرسمي»، ما يعني فقدانها لقيمتها. ولكنّ الأكيد أنّ إعاشة هذه المصارف «بالغصب» سيُدمّر عموم السكان وليس فقط زبائنهم. فلا يُمكن المراهنة على تعافي الاقتصاد، من دون وجود قطاع مصرفي سليم يدعمه.



أين خطة تفعيل عمل المصارف؟
في 27 آب 2020، صدر عن مصرف لبنان التعميم 154 بعنوان «إجراءات استثنائية لإعادة تفعيل عمل المصارف العاملة في لبنان». أبرز ما يتضمنه: إعادة تكوين السيولة الخارجية بنسبة 3% من مجمل الودائع بالعملات الأجنبية، استعادة ما نسبته 15% (للزبائن) و30% (لأصحاب المصارف والمساهمين والمدراء والمعرضين سياسياً) من التحويلات التي فاقت الـ500 ألف دولار. أُلحق التعميم بالمذكرة 15/2020 الصادرة عن لجنة الرقابة على المصارف تطلب من المصارف وضع «استراتيجية العمل للسنوات الخمس المقبلة»، وهي عملياً كانت تهدف إلى إعادة هيكلة «ذاتيّة» للقطاع، عبر دفع كل مصرف للاعتراف بخسائره.
بداية هذه السنة انتهت مهلة تنفيذ التعميم من دون «تفعيل عمل المصارف» أو تنفيذ بنوده ولا سيما استعادة الأموال المحوّلة، ولم تُقدّم المصارف أي خطة عمل. اللافت أنّ سلامة كان «يرفع الصوت» أمام محدّثيه، مؤكّداً تطبيق التعميم 154 وإلا «فسيُجبر كلّ مصرفٍ مخالف على التصفية، في محاولة منه لتخويف المصارف». التهديد الدخاني للحاكم ترافق مع رفضه اقتراحات عدّة لإعادة الهيكلة، من بينها إنشاء «المركزي» شركة تقوم باستملاك كلّ المصارف المُتعثّرة. يُعلّق مسؤول مصرفي إنّ «سلامة فقد قوّته، ولم يعد بمركزٍ يسمح له باتخاذ أي قرار».


صفير: المصارف قادرة على دفع الودائع
«سنة 1973، وبعد أن وجدت أنّ السياسة بحاجة إلى المال، تملكّت أسهم «إدكوم بنك»، وطورّت أعماله فانتقلنا من فرع واحد إلى 17 فرع»، يقول هنري صفير لـ«الأخبار». المهندس وصاحب تلفزيون «أي سي أن» وجريدة نداء الوطن سابقاً، كان خصماً للنظام السوري ورئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري، «اجتمعا ضدّي وسعّرا ضغوطهما. والمصرف بيت زجاج، لا يقدر أن يكون معارضاً». سنة 1998، اتّخذ صفير قرار تصفية المصرف، «وضغطت على رياض سلامة ليقبل، فباع قسماً من الموجودات لمصرف عوده». يُخبر كيف باع الجزء المتبقّي من الأملاك، واستخدم السيولة لتسديد «ودائع الزبائن والفوائد عليها. بقينا بحاجة إلى 39 مليون دولار، دفعتها من أموالي الخاصة». ينطلق صفير من هنا، ليؤكّد بأنّ «صاحب المصرف مسؤول عن حقوق الزبائن. هؤلاء الذين باعوا فروعهم الخارجية، استخدموها لردّ أموال الناس أم زيادة مدخولهم وسيولتهم ورقياً؟ كلّهم قادرون على دفع أموال المودعين من جيوبهم الخاصة لأنّهم المسؤولون ولم يُجبرهم أحد على توظيف أموالهم في مصرف لبنان والانكشاف على الدولة. وفي حال عجزوا، ليختاروا التصفية». فالمصارف، بحسب صفير، «يجب أن تكون عاملاً إيجابياً بتفعيل وتقوية الاقتصاد، وإلّا تخرج من اللعبة».
ومنذ نهاية 1989، توقّف 17 مصرفاً عن العمل، وتوزّعت تصفيتها بين ذاتيّة أو تُحال إلى لجان تصفيٍة بموجب القانون 2/67، الذي وبالإضافة إلى القانون 110، يُنظّمان التصفية. بعد تحديد الإطار القانوني، تُحصر موجودات المصارف وأصوله وتُجرد، تُضبط المحاسبة، وتُستخدم مع السيولة لتسديد الودائع.