قبل الوصول الى تقديم كتلة لبنان القوي مطلع الأسبوع مراجعة طعن في مواد عدة في قانون الانتخاب، المعاد إقراره في جلسة مجلس النواب في 28 تشرين الأول، تكثر الإيحاءات بأن مصير الانتخابات النيابية العامة المفترض أنها ستجرى في 27 آذار معلّق على قرار المجلس الدستوري. في ضوء أولى جلساته، ما إن يصبح القانون المطعون فيه تحت ولايته، يقتضي بالمجلس الدستوري تقرير تعليق تنفيذه جزئياً أو كلياً، قبل أن ينيط بالمقرّر المعيَّن وضع تقرير به.ما سيكون أساسياً في قرار التعليق الجزئي المرجّح، هو السياسي لا الدستوري في المهمة الجديدة للمجلس، وخصوصاً أنه مدعوّ الى بتّ مسألتين يدور الاشتباك السياسي من حولهما بين الرئاسات كما بين القوى المؤيدة لها: موعد إجراء الانتخابات في 27 آذار 2022، وتفسير نصاب الغالبية النيابية في مقاعد مجلس النواب. وهي المرّة الأولى التي يدعى فيها المجلس الدستوري الى تفسير مباشر للدستور في المشكلة الأساسية المنطوية عليها مراجعة الإبطال، وليس من طريق جانبية استطرادية. صلاحية كهذه كانت قد منحته إياها الإصلاحات السياسية في اتفاق الطائف، ثم نزعها منه مجلس النواب لدى مناقشتها في جلسة 21 آب 1990، وعدّ نفسه المرجعية الصالحة لتفسير الدستور ما دام صاحب صلاحية تعديله.
(مروان بو حيدر)

في الغالب في صلب مهماته، لا يسع المجلس الدستوري تأكيد دستورية قانون مطعون فيه، إلا في ضوء تفسيره مواد الدستور. إذ يصبح تفسيره ــــ وأحياناً التوسّع في التفسير ــــ جزءاً لا يتجزأ من آلية النظر في القانون. ذلك ما فعله عندما فسّر مرة تلو أخرى، في قرارات عدة، الفصل ما بين السلطات وتوازنها وتعاونها، وتمييز إصدار القانون عن نشره، والمساواة الواجبة والملزمة في قوانين الانتخاب، والتصويت على القوانين في مجلس النواب وفق المادة 36. هذه المرة، الأولى، يجبه المجلس الدستوري المادة 57 كأعتى مواد الكتاب، القابلة للتأويل والاجتهاد والخلاف، وأحياناً التذاكي والتزوير تبعاً للمتلاعبين بها، شأنها شأن المادة 49. الواضح أيضاً أنهما ستكونان مترابطتين في المشكلة الناشئة حديثاً.
ما يصحّ قوله الآن، وصحّ على الدوام في الماضي منذ وضع الدستور اللبناني عام 1926، ثم تعديله في السنة التالية، أن المادة 57 في التعديل غير المادة 57 في النص الأصلي بقلبها فكرة النصاب القانوني رأساً على عقب. مع ذلك، تشعّب الاجتهاد في قراءتها. لعلّها أقرب الى «حتى» التي حتحتت عقول النحاة.
يكاد يكون الخلاف السياسي على الغالبية الحالية في البرلمان، من جراء استقالة أو وفاة 13 نائباً، يتجاوز السجال الدائر على قانون الانتخاب، وتبعاً لذلك الاشتباك السبّاق له بين الرئيسين ميشال عون ونبيه برّي، بدءاً بردّ رئيس الجمهورية قانون الانتخاب، مروراً بإصرار مجلس النواب عليه بالغالبية التي حدّدها رئيسه وهي 59 نائباً، وانتهاءً بما سيدلي به المجلس الدستوري. أحد أبسط الأدلة على سذاجة التعويل على المجلس الدستوري، أن هذه الهيئة المحدثة عام 1994 للمرة الأولى في تاريخ لبنان، لا تعدو كونها جزءاً لا يتجزأ من نظام الحكم والتقاسم منذ اتفاق الطائف، سواء بالأعضاء الخمسة المنتخبين في مجلس النواب، ثم بالخمسة المعينين في مجلس الوزراء.
للمرة الأولى يدعى المجلس الدستوري إلى تفسير الغالبية النيابية


على مرّ هيئاته المتعاقبة مذذاك، لم يسع المجلس الدستوري إلا أن يكون على صورة مرجعية السلطة السياسية التي اختارت أعضاءه. كذلك في الأزمات التي جبهها، كان على صورتها تماماً كجزء من الانقسام السياسي. أولى علاماته المخيّبة استقالة رئيسه ــــ أول رئيس لأول مجلس دستوري ــــ وجدي الملاط عام 1997 احتجاجاً، وبالكاد عمر المجلس ثلاث سنوات، بعدما سبقه لسنة خلت إخراج المجلس حلاً استثنائياً لإجراء انتخابات 1996 أنجد السلطة اللبنانية الحاكمة آنذاك، المصرّة على إجرائها وفق قانون بلا معايير. ثم صار الى أول تعطيل لدوره عام 2005 على إثر الانتخابات النيابية، لوفرة الطعون في انتخاب نواب محسوبين على رجالات الحقبة الجديدة، فشُلّ عمله. ثم كان أحد آخر مشاهد التلاعب بالمجلس عام 2013، بتعطيل نصاب انعقاده في موعد المذاكرة، بعدما تأكد أنه سيُبطل قانون تمديد ولاية البرلمان. بفرض تغييب ثلاثة من أعضائه، حيل دون المذاكرة، ومن ثم فرض نفاذ القانون.
ليست المهمة الجديدة للمجلس الدستوري، تبعاً للطعن المتوقع تقديمه، سوى تكرار لأزمة قديمة مرتبطة بحال، ما لبثت أن أضحت أسيرة حالة أخرى أكثر تعقيداً. على أهمية الخلاف على تفسير نصاب الغالبية المطلقة الحالية لمجلس النواب بعدما أضحى عدد أعضائه 115، فإن ترسيخ التفسير وتناقضه والصراع من حوله يعطي للتوّ إشارتين سلبيتين:
أولى، أن الانتخابات النيابية المقبلة في آذار أو في أيار 2022 غير مؤكدة، كما لو أن المطلوب تثبيت قاعدة كانت صالحة في زمن الحرب، وليست كذلك في حقبة السلم الوهمي. إذ لا يبدو مستحقاً الى هذا الحدّ وقوع انقسام في مجلس النواب، وبين الرئاسات، ما لم يكن المضمر أسوأ بكثير من المعلن.
ثانية الإشارتين، لأن الانتخابات النيابية غير مؤكدة الحصول في موعدها، فإن النصاب الجديد، بتعيين أكثرية مطلقة جديدة، هو القطار الذي سيقود البلاد الى الانتخابات الرئاسية المقرّرة ما بين آب وتشرين الأول 2022. ليس نصاب الأكثرية المطلقة (59 نائباً) ــــ غير المتفق عليه حالياً ــــ هو المشكلة المقبلة، بل نصاب الثلثين الملزم لانعقاد مجلس النواب هيئة ناخبة، استناداً الى احتساب العدد الذي يتألف منه مجلس النواب قانوناً. سيمسي نصاب الثلثين إذذاك 78 نائباً، عوض أن يكون 86 نائباً لانتخاب الرئيس الجديد للجمهورية.
كما في كل شأن ينجم عن مشكلة، يُعثر على جذور لها في سوابق، ما يحدث الآن في الصراع على نصاب الغالبية المطلقة ليس مقطوعاً من شجرة، ولا يتيماً لا أب له ولا ماضي. أولى مرات نوقشت فيها المسألة عام 1978 مع تدنّي عدد النواب من 99 نائباً الى 94 نائباً بفعل وفاة ثلاثة هم: مرشد الصمد وصبري حمادة وجوزف شادر، واغتيال اثنين هما: كمال جنبلاط وطوني فرنجية. توسّع الخلاف في المجلس لاحتساب النصاب دونما أن يكون مقبلاً حينذاك على استحقاق دستوري مهم كرئاسة الجمهورية. عام 1980، بعد جدال طويل في قانون التقاعد والخلاف على التصويت عليه، توصّل المجلس الى أول تفسير لمادة دستورية في تاريخه هي الماده 57، بُني فيه نصاب الغالبية على النواب الأحياء لا على المقاعد، بحجة مزدوجة هي تعذّر إجراء انتخابات نيابية عامة أو فرعية لاكتمال هيئة البرلمان، وكذلك التناقص المستمرّ في عدد النواب. عندما دهمت أول انتخابات رئاسية، في ظل هذا التفسير، احتسب الثلثان (61 نائباً) بناءً على نصاب النواب الأحياء (92 نائباً) في جلسة انتخاب الرئيس بشير الجميّل عام 1982، وكان الصراع على اكتمال النصاب ــــ لا على حتمية الفوز ــــ محموماً. تكرّر الاحتساب نفسه مع انتخاب الرئيس رينيه معوّض عام 1989، فإذا الثلثان (49 نائباً) من مجموع النواب الأحياء (73 نائباً).
بيد أن ذلك كله انقضى نهائياً بإجراء أول انتخابات نيابية عامة في البلاد عام 1992.