لأن ليس سوى التاريخ يرتوي منه الحاضر، تصلح احياناً اجابات ذاك لمآزق هذا. في كل مرة اختبر لبنان شغوراً رئاسياً - وهي رياضة لم تعد جديدة ولا متعبة او مقلقة - صار الى البحث في سوابق يستعيد تطبيقها. في شغور 1988 استُعين بسابقة الرئيس بشارة الخوري عام 1952، وفي شغور 2007 لم يُعثر على سابقة تشبه تولي حكومة استقالت منها طائفة اساسية صلاحيات رئيس الجمهورية. وفي شغور 2014 لم يُؤتَ كذلك بسابقة تشبه سبل الخروج من مأزق إما انتخاب المرشح الوحيد او لا انتخاب رئيس. في الشغور الرابع المحتمل، تُطرح مشكلة بدا لوهلة انها غير مجرَّبة قبلاً في الحالات الثلاث السابقة: تولي حكومة مستقيلة صلاحيات رئيس الجمهورية.الاعتقاد السائد ان الاشكالية الدستورية هذه تناقش للمرة الاولى. ظاهراً هي المرة الاولى يصدف وقوع نهاية ولاية رئيس للجمهورية مع حكومة تصريف اعمال، وكلاهما يقعان في مرحلة بشّرت سلفاً بتوقّع عدم انتخاب خلف للرئيس الحالي، دونما التمكن من تأليف حكومة جديدة لامرار الوقت المتبقي من ولاية الرئيس اولاً، ولاحتمال الحلول في صلاحياته اذا اخفق - او لم يُرِد - مجلس النواب انتخاب خلف له.
لأن، في لبنان، في كل حقبة سوابق تغطيها لانجادها من المشكلة بعد ان تقع فيها، ولايجاد حلول موقتة لأزمات مستدامة، فإن المعضلة الحالية بذلك ليست الاولى.
في 28 تشرين الثاني 1987، كتب رئيس مجلس النواب آنذاك السيد حسين الحسيني الى الدكتور ادمون ربّاط يسأله عن «احتمال عدم انعقاد جلسة لانتخاب رئيس للجمهورية في الموعد المقرر دستورياً». في حمأة ضغوط يتعرّض لها عهد الرئيس امين الجميّل منذ ما قبل سنتين على نهاية ولايته، ثم استقالة رئيس الحكومة رشيد كرامي في السنة الخامسة من الولاية، ثم بعد شهر اغتياله، وتعذّر تأليف حكومة جديدة لرئيس آخر، ما حمل الجميّل بالتفاهم مع القيادات السنّية على اصدار مرسوم ينيط رئاسة الحكومة المستقيلة موقتاً بأحد وزرائها الرئيس سليم الحص «في انتظار تأليف حكومة جديدة». اذذاك، اضحت الحكومة العشرية حكومة تصريف اعمال على ابواب انتخابات رئاسية العام التالي، غدا واضحاً - في ذورة الدور السوري - ان من الصعوبة بمكان انتخاب رئيس خلف للجميّل، فطُرحت مشكلة انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية الى حكومة تصريف الاعمال.
في 14 كانون الاول 1987، قبل سبعة اشهر من المهلة الدستورية لانتخاب الرئيس، ارسل ربّاط جوابه الى الحسيني مذكّراً، في مطلعه، بما كان اثاره الرئيس شارل حلو امام الرئيس الياس سركيس في شباط 1982، قبل اربعة اشهر من الاجتياح الاسرائيلي وسبعة اشهر من نهاية ولاية سركيس، وكانت ثمة مخاوف من ان لا تُجرى انتخابات رئاسة الجمهورية، وهو ان «رئيس الجمهورية يستمر قائماً بصلاحياته الرئاسية عملاً بمبدأ استمرارية الدولة واستمرارية مؤسساتها واداراتها ومنها رئاسة الجمهورية».
بالتأكيد لم يكن جواب ربّاط مؤيداً وجهة نظر حلو، ملاحظاً ان «الضجة التي ايقظها هذا الرأي لا يبدو انه صدر في حينه اي دراسة او استشارة حول هذا الموضوع الخطير».
وقائع عامي 1987 و1988، في لبنان ما قبل اتفاق الطائف، استعيدت فصولها تقريباً في لبنان ما بعد ذلك الاتفاق: انتخابات رئاسية غير مؤكد حصولها، حكومة تصريف اعمال عالقة بين دستورية توليها صلاحيات رئيس الجمهورية او عدم دستوريته، آراء وفيرة في بقاء الرئيس في منصبه او عدم بقائه. اضف الى ملاحظة متشابهة الى حد ما بين حكومة الحص عامي 1987 و1988 وحكومة الرئيس نجيب ميقاتي الآن: الاولى، على ابواب المهلة الدستورية وجّه رئيسها بالوكالة الى الجميّل كتاباً غير مسبوق او مألوف يسحب استقالة رئيسها الاصلي المغتال قبل سنة، فرفض رئيس الجمهورية واعتبر استقالتها قبلت حينذاك وباشرت تصريف الاعمال ريثما تخلفها حكومة اخرى. اما الثانية، فطلب ميقاتي بما يشبه تعويمها بالحبال، اعادة اصدار مراسيمها على نحو تأليفها عام 2021 كي تتولى المتبقي من ولاية الرئيس ميشال عون.
شرح ربّاط في جوابه بالتفصيل الاصول التاريخية للمادتين 62 (تولي مجلس الوزراء صلاحيات الرئيس وكالة) والمادة 74 (خلو سدة الرئاسة) وتمييز كل منهما عن الاخرى ونطاقها المنفصل والمتباعد، قبل ان يضيف: «الامر الذي يعني بالنتيجة تطبيقاً لنص كل من المادتين 62 و74، اذا احببنا التقيّد بالنص والمنطق، بأن مهما كان السبب لخلو رئاسة الجمهورية، فإن صلاحية ممارسة السلطة التنفيذية انما تعود الى مجلس الوزراء، فيتولاها الى حين انتخاب رئيس جديد للجمهورية».
اورد ربّاط كذلك في رده: «الدستور احتاط للفراغ في مادتيه 62 و74. وفي هذه الحالة، يكون من التجاوز في فهم النصوص وتفسيرها، اهمال وجودها وعدم الالتفات الى اطلاقيتها، لكي يحل محلها رأي لا يمتّ بأي صلة الى احكام مكتوبة، جازمة، ولا يستوحي من اي اثر مما قد يكون الفقه او الاجتهاد توصل اليه. اما التردد في تطبيق المادتين 62 و74 بحجة ان الحكومة التي قد تعود اليها ممارسة الصلاحية المحددة في هذين النصين هي مستقيلة، فلا يبدو انه متوافق مع المفهوم الخاص بتصريف الاعمال الجارية. هذه الصلاحية التي اجمع الفقه والاجتهاد على اناطتها بالوزارة المستقيلة. من المتفق عليه في القانون الدستوري، ان من المستحيل عملياً رسم الحدود التي تجري هذه الممارسة في مواقعها. وذلك لأن هذه الصلاحية تتصف، جوهرياً، بالنسبية باعتبار انه يقتضي بالحكومة المستقيلة ان تبادر، وجوباً، الى اتخاذ كل الاجراءات التي تتطلبها الحالة القائمة مهما كان لهذه الاجراءات من ذيول ونتائج، وذلك بشرط واحد وهو ان تكون مضطرة، حفظاً للمصلحة العامة، لأن تُقدم على هذا العمل الذي لا بد من اجرائه. وهي القاعدة السياسية المعروفة لدى الرومان بقولهم «Salus populi suprema lex esto»، اي انه يقتضي ان تكون سلامة الشعب القانون الاسمى. وهل من اجراء اشد خطورة والحاحاً من ممارسة الحكم في غياب رئيس الجمهورية لأي سبب كان، ومنه انقضاء مدة ولايته؟».
ربّاط: من العبث التحرّي في التاريخ عن مجلس يتقاعس عن موجب دستوري كانتخاب رئيس الدولة


في عِبرة ما ختم به ربّاط جوابه: «من العبث التحرّي في طيات التاريخ السياسي عن مثال لمجلس يمثل الشعب، يتقاعس عن القيام بموجب دستوري حيوي كانتخاب رئيس الدولة، وذلك لسبب بسيط، وهو ان التقاعس يكون وليد الاستحالة الناتجة عن ثورة قائمة، لا عن حرب اجنبية او اجتياح جيوش عدوة. اذ ان في اوضاع مماثلة قد استمرت مؤسسات الدولة الاساسية في القيام بصلاحياتها الدستورية، كما حصل في فرنسا وسواها ابان الحربين العالميتين الاولى والثانية.
اما في لبنان، فاذا ما حصل في شهر ايلول (1988) ما يتخوّف منه البعض واستحال على البرلمان ان يجتمع، بسبب ظروف قاهرة او امتنعت اكثرية اعضائه عن تلبية واجبهم الدستوري، فيكون هذا البلد الصغير قد اعطى للعالم صورة اخرى عن الكوارث الشاذة، الفريدة في التاريخ، لما يصيب شعباً اصبح مفككاً متناثر الطوائف والاحزاب، في اطار دولة اسمية من دون حياة وفعل ومسمّى. لذلك كله، واذ استميح عذراً مَن يخالفني، اتشرّف بابداء الرأي بأن مجلس الوزراء هو الذي تتجسد في كامل هيئته السلطة التنفيذية في حالة خلو رئاسة الجمهورية لأي علة كانت، ومنها عدم انتخاب خلف للرئيس، اكان ذلك في الفترة الدستورية المحددة في المادة 73 من الدستور او بعد انقضائها، وذلك عملاً بالنص الجازم الوارد في كل من المادتين 62 و74 من الدستور».