دخل الأوروبيون مرحلة جديدة من ممارسة الوصاية المباشرة على المؤسسات الدستورية اللبنانية. إلى جانب التدخلات اليومية التي تمارسها دول خارجية، ولا سيما فرنسا وألمانيا، في قضايا داخلية سياسية واقتصادية واجتماعية، إلا أن تطوراً بالغ الخطورة طرأ أمس، تمثل في رسالة شديدة الوقاحة بعثت بها السلطات القضائية الفرنسية، بالتزامن مع رسالتين من ألمانيا ولوكسمبورغ، «تبلغ» السلطات القضائية اللبنانية بأن وفوداً قضائية من هذه الدول ستزور لبنان الشهر المقبل لإجراء تحقيقات مباشرة في ملف حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.الطلب الأوروبي الذي يتجاوز كل الأصول، ويمكن اعتباره اعتداء موصوفاً على السيادة اللبنانية، خصوصاً أنه يشير إلى أن الوفود تضمّ ممثلين عن النيابات العامة وقضاة التحقيق ورجال شرطة وكتبة، وأن هؤلاء سيحضرون إلى لبنان بين 9 و20 من الشهر المقبل. وتطلب الرسالة من السلطات القضائية اللبنانية إبلاغ نحو 30 شخصية بمواعيد استجوابها في قضية شركة «فوري» والأموال المشتبه في أن سلامة اختلسها من أموال مصرف لبنان.
وفيما لم يصدر بعد أي موقف رسمي من جانب السلطات اللبنانية المعنية، علمت «الأخبار» أن الجانب الأوروبي قد لا يلقى أي تعاون من الجهات القضائية اللبنانية إلا وفق ما تنص عليه القوانين في لبنان. علماً أن الأوروبيين يمارسون ضغوطاً لإلزام القضاء اللبناني بتنفيذ الأوامر، وهو أمر مخالف لأبسط القوانين كما أظهرت مناقشات جرت أمس في مكتب النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات الذي وُجهت الكتب الأوروبية إليه.
وقالت مصادر مطلعة إنه لا يجوز لأي جهة خارجية أن تتجاوز السيادة القضائية المطلقة للبنان، وإنه يمكن إرسال استنابة قضائية أو طلب مساعدة أو حتى إرسال أحد القضاة من أجل الاستجواب، لكن عبر قاض لبناني. ولفتت إلى حالة رجل الأعمال كارلوس غصن الذي استمع القضاء الفرنسي إليه من خلال قاض لبناني تسلم الأسئلة من الجانب الفرنسي ووجهها إلى غصن، كما أن الأمر اقتضى الحصول على موافقة غصن أولاً.
لماذا لم يستدع القضاء الأوروبي سلامة ولماذا لا يحقق مع شركائه الأوروبيين ولماذا يريد وصاية مباشرة على القضاء اللبناني


ووفق المصادر، فإن السماح للجهات القضائية الأوروبية بهذا المستوى من الخرق سيشكل سابقة من شأنها فتح البلد أمام أي دولة في العالم تفترض أن لديها قضية في لبنان، ومن شأن تكريس مثل هذه السابقة فتح الباب أمام استثمار سياسي في قضايا أخرى، كما في ملف انفجار المرفأ أو حادثة العاقبية أو غيرهما. مع الإشارة إلى أن الوفود القضائية الأوروبية القادمة ستطبق القوانين الأوروبية على الأراضي اللبنانية، وهذا أيضاً مخالف لأبسط قواعد البروتوكول بين الدول ومسّ جوهري بسيادة القانون اللبناني على الأراضي اللبنانية.
وعلمت «الأخبار» أن لائحة المطلوب استجوابهم تشمل حاكم مصرف لبنان وجميع نوابه من العام 2001 إلى اليوم، وموظفين كباراً في المصرف المركزي، إلى جانب شقيقه رجا سلامة ومساعدته ماريان الحويك، ورؤساء مجالس إدارات مصارف لبنانية ومدراء تنفيذيين فيها. ما يعني، عملياً، أن الجانب الأوروبي الذي سبق أن اطلع على تحقيقات القضاء اللبناني في هذا الملف، يريد تكرار التحقيق نفسه مع الأشخاص أنفسهم.
ولفتت المصادر القضائية إلى أنه كان يفترض بالسلطات الأوروبية متابعة التحقيق من جانبها وعلى أراضيها، وأن تبادر إلى خطوات أولية تتعلق بسلامة. وسألت: «لماذا لم تدعُ السلطات القضائية الفرنسية حاكم مصرف لبنان إلى باريس لاستجوابه؟ ولماذا لم تصدر عن هذه السلطات أي مذكرة بحق سلامة، ولماذا لا يوجد نشرة حمراء بحقه؟».
ولفتت المصادر إلى أن السلطات القضائية الأوروبية لا تزال إلى اليوم تتجاهل تحقيقات ضرورية يجب أن تجريها مع مصارف ومصرفيين ورجال أعمال وسماسرة في سويسرا وفرنسا وألمانيا وغيرها الدول الأوروبية، في شأن مشاركتهم سلامة في الجريمة المنسوبة إليه، خصوصاً أن عمليات التبييض تمت في مصارف أوروبية وبمشاركة مصرفيين أوروبيين. وقد كشفت مصادر مطلعة أن مصرفيين من مستوى رفيع جداً في أوروبا تورطوا في ملف سلامة وملفات أخرى، لكن السلطات الأوروبية تريد حصر الملف بالجانب اللبناني فقط.
وحذرت المصادر من أن تكون هناك غاية أخرى تستهدف البلاد بعيداً من ملف سلامة. مشيرة إلى الدور الخطير الذي تلعبه فرنسا وألمانيا من خلال محاولة فرض الوصاية على لبنان، بالتعاون مع جهات لبنانية سياسية واقتصادية وحتى قضائية. وقالت المصادر إن الجانب الأوروبي يستفيد من حملة التهويل التي يمارسها على شخصيات بارزة في الدولة لتنفيذ أجندته، لافتة إلى تأنيب وزير الخارجية عبدالله بو حبيب أخيراً السفير الألماني أندرياس كيندل على ما يقوم به خلافاً للأصول، قبل أن يحصل على تنويه من رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، ما جعله يتصرف وكأنه خارج المساءلة. كذلك لفتت المصادر إلى تهويل يستهدف قضاة بارزين في لبنان، وتهديدهم بفرض عقوبات عليهم بذريعة عرقلة الإجراءات القضائية. علماً أن المادة 46 من المعاهدة الدولية لمكافحة الفساد تقول إن الاستنابات القضائية تطبق في حال مطابقتها لقوانين البلد الموجهة إليه.