الصورة التي يقدّمها نواب وقياديون في القوات اللبنانية والكتائب وغيرهما من القوى المسيحية عن المقاومة وبيئتها لا تدل سوى على حالة إنكار كبيرة، لحالة عسكرية وأمنية - علمية وتكنولوجية - اقتصادية واجتماعية لم يعد سهلاً وضع سقوف لها. ما تحقق في سوريا واليمن، بعد انتصار تموز، كان له أثره النفسي العام على مجتمع المقاومة، وظهرت تداعياته الاجتماعية في المدارس والجامعات والاقتصاد ككل. القوات اللبنانية، مثلاً، تعتبر نفسها خصماً لحزب الله، فيما ليس على رادار الحزب شيء اسمه قوات أو غيرها ممن يُصنّفون خصوماً محليين له. كثر من الأفرقاء المحليين، بمن فيهم حلفاء للحزب يتقدمهم التيار الوطني الحر سابقاً، لم يلتقطوا تحوله في أقل من عقدين، من حزب يبحث عن تفاهمات داخلية وثلث وزاري ضامن، إلى قوة إقليمية هائلة، لها النصف زائداً واحداً على مستوى المنطقة، وهو لا يريد سوى أن يكون لبنان آمناً ومستقراً لا يحاول أحد أن يطعنه فيه من الخلف. وهذا، بالمناسبة، ما أدركه الفرنسيون جيداً، وأظهروا، منذ لقاءات قصر الصنوبر التي عقدها الرئيس الفرنسي قبل عامين، براغماتية كبيرة في التعامل مع هذه الحقائق.
مطلوب من فرنجية أن يحذو حذو عون عشية انتخابه في طرق أبواب الأطراف السياسية
قبل أيام، بعد الضغط الخارجي للإيحاء بتعطل المسعى الفرنسي لتحقيق تسوية سليمان فرنجية - نواف سلام، أعاد حزب الله تفعيل محركاته في ثلاثة اتجاهات:
أولاً، مع الفرنسيين للتأكيد على معادلة فرنجية أولاً وأخيراً، مقفلاً الباب على أي نقاش آخر، و«إذا تعذر الأمر صيف 2023، يمكن انتظار صيف 2024 أو صيف 2025»، ولا خشية على المؤسسات طالما أن الولايات المتحدة تأخذ على عاتقها دفع رواتب القوى الأمنية.
ثانياً، مع فرنجية نفسه لمغادرة مربع الانتظار الدائم ليبحث عما يمكن فعله كما فعل الرئيس ميشال عون حين ذهب إلى بيت الوسط ومعراب وطرق باب كليمنصو أكثر من مرة.
ثالثاً، تواصل مع أفرقاء داخليين لتليين موقفهم من رئيس المردة، ما يخفف كثيراً من الضغوطات ومن حجم فاتورة إيصال فرنجية.
كان الفرنسيون متعطّشين إلى هذا الدفع من حزب الله لإحياء مبادرتهم وإلغاء مراسم دفن الديبلوماسية الفرنسية، إذ لا تستسهل إدارة ماكرون الاعتراف بفشلها في لبنان مجدداً. في المقابل، بنى الحزب مقاربته التكتيكية على معادلة استراتيجية أساسية: لم تغير إيران سياستها في المنطقة، ولا يفترض أن يساء تفسير الود المستجد مع السعودية. وهو ما يمكن ترجمته كالتالي: يمكن إبطاء الاندفاعة أو التوقف قليلاً لتحصين المكتسبات ومراكمتها، لكن لا تراجع ولو خطوة واحدة إلى الخلف. وهذا يُترجم لبنانياً كالتالي: لا عودة على مستوى رئاسة الجمهورية أو مجلس الوزراء أو الحقائب الوزارية أو التمثيل السياسي إلى ما قبل عام 2016.
خلافاً لما يشاع، تؤكد المعلومات أن القيادة السورية تحاذر الدخول المباشر على خط فرنجية - الرياض نظراً إلى الحساسية السورية - الفرنسية والروسية - الفرنسية، ولمعرفة السعوديين بالموقف السوري الداعم لفرنجية من دون حاجة إلى المجاهرة بذلك. وهنا، تنبغي الإشارة إلى أن السعودية عادت إلى سوريا من دون أن ينسحب حزب الله منها أو يعيد الحرس الثوري تموضعه فيها، وبالتزامن مع إطلاق صواريخ رمزية على الجولان، ومن دون أي تراجع ولو شكلي للرئيس السوري أمام المعارضة المفترضة، باستثناء العفو عما مضى!
بمعزل عن التزام الحزب بمصداقيته تجاه رئيس تيار المردة رغم تداعيات ذلك على علاقته بالتيار الوطني الحر، تماماً كما التزم في الاستحقاق الرئاسي السابق بمصداقيته تجاه الرئيس عون رغم تداعيات ذلك في حينه على علاقته بالرئيس نبيه بري، تنطلق مقاربة الحزب للاستحقاق الرئاسي من كون «خطنا السياسي ربح، ويجب أن نتصرف على هذا الأساس رغم الضغوط الاقتصادية والمالية المتواصلة». علماً أن الحزب يقارب مجمل الأزمة الاقتصادية بوصفها «حرب تموز مالية» لا يمكن أبداً رفع الرايات البيضاء أمامها أو التنازل عن مكتسبات الحزب وحلفائه للتخفيف من تداعياتها. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى توقيت ترشيح فرنجية قبل تظهير الاتفاق السعودي - الإيراني والتقارب السوري - السعودي، للقول بصراحة إن هذا كان سقف الحزب في مرحلة الحرب عليه وعلى حلفائه، ولن يتراجع عنه في مرحلة الاتفاق السعودي - الإيراني والتقارب السوري - السعودي.
والنتيجة، يريد الحزب تفاهماً لبنانياً يتناغم وينسجم مع التفاهمات الحاصلة في المنطقة؛ هو وحلفاؤه في لبنان، كما الرئيس الأسد في سوريا، وكما إيران في المنطقة، وروسيا والصين في العالم، يمكن أن يعفوا عما مضى، لكن لا يمكن تقديم أي تنازلات. يمكن إرساء معادلات جديدة تكرس التوازنات الحالية، لكن لا يمكن العودة إلى ما قبل 2016. يمكن تخفيف الاندفاعة في المسار التصاعدي لحزب الله أو التوقف قليلاً لكن لا يمكن العودة خطوة إلى الوراء. من تشغله اللحظة الآنية عن المستقبل، لا يمكن أن يفهم. من تهمه الاستراتيجيات أكثر من التكتيك لا بدّ أن يفهم.