عند مدخل «مثوى شهداء فلسطين» في شاتيلا، يقيم محمد مع عائلته منذ عشر سنوات. يرعى المدافن ويحفظ شواهد أصحابها «لأنها تختصر العالم». هنا قبر الإيطالي فرانكو فونتانا، وهناك قبر الفرنسية فرانسواز كسيتمان، وبينهما قبرا اليابانيين ياسوكي ياسودا وأوكاديرا تويوشي اللذين استشهدا في عملية مطار اللد في فلسطين المحتلة عام 1972 مع رفيقهما وساموما روكا الذي توفي عام 2011 متأثراً بالتعذيب خلال الاعتقال وباكاو هيموري الذي أحرق نفسه في طوكيو عام 2002 احتجاجاً على الاجتياح الإسرائيلي للضفة الغربية. قريباً من هذه القبور، دُفن عبد حسيني من العمارة في العراق والشاعر السوري كمال خير بك سوريا... لا يزال محمد، الذي نشأ في مخيمات بيروت، يعبّر عن دهشته «ممن تركوا بلادهم وهم في مقتبل الشباب ليقاتلوا من أجلنا، فيما كثير من الفلسطينيين يستميتون للهجرة إلى البلاد التي جاء منها هؤلاء. يدرك بأن الزمن تغيّر. أبرز حكايات أهل القبور، برأي محمد، هي فونتانا - أو «جوزيف إبراهيم» اسمه العسكري - الذي عاد إلى إيطاليا بعد اجتياح بيروت عام 1982. لكنه بعد تقاعده من عمله، عاد عام 2015 إلى بيروت حيث أقام ثلاثة أسابيع قبل أن يموت بسكتة قلبية ويُدفن هنا بناءً على وصيته.

في 15 أيار 2015، وصل فونتانا إلى مخيم مار الياس، قاصداً مكتب الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين. بالصدفة، كان الناشط سامر مناع حاضراً. لبّى طلبه بالمبيت في المخيم رغم أنه لم يفصح عن تاريخه الفدائي في صفوف الجبهة منذ عام 1977. قال إنه متضامن أوروبي سيمضي شيخوخته في المخيمات خدمة للقضية الفلسطينية. بعد أيام قليلة، تعرّف إليه مسؤول مجموعته في محاور الجنوب «أبو السعد». لم يحظَ رفاقه القدامى وعارفوه الجدد بوقت كافٍ للقائه والتزود من تجربته. في 2 حزيران، أصيب بجلطة دماغية أدخلته في غيبوبة حتى فارق الحياة. «حاولنا التعويض في مماته. حظي بجنازة شعبية شارك فيها الآلاف من مخيمَي صبرا وشاتيلا، رافقوا جثمانه حتى مدافن الشهداء». واللافت أن قبره كان بانتظاره برغم أزمة ضيق المساحة. «قبل أيام من وفاته، حضرت عائلة شهيد تونسي كان قد سقط في صفوف المقاومة الفلسطينية في لبنان واستعيد رفاته في صفقة تبادل الأسرى عام 2008. استخرجت العائلة الرفات لنقله إلى مسقط رأسه في تونس، فشغر القبر قبل أن يشغله فرانكو».