ثمة، بين الناس، من يؤسف له ولا يؤسف عليه. وثمة من يؤسف عليه ولا يؤسف له. وثمة من لا يؤسف لا له ولا عليه... أما في خصوص عبد الكريم مروة المعروف بـ«الرفيق» كريم مروة فيمكن إدراجه، وطبعاً من باب التساهل، في خانة الذين يؤسف لهم ويؤسف عليهم... وإن كان هذا لا يخفّف من حقيقة وواقع أن الأسف عليه أشدّ من الأسف له. فالرجل، وخلافاً لكل الناس، وبالذات لأقرانه أو مجايليه، لم يعرف طوال حياته إلا... التفوّق! فهو الأول في التفكير النقدي، والأول في التجديد السياسي، والأول في اكتشاف الأزمات الحزبية، والأول في رسم الحلول وتعيينها، والأول في تحدي المركز السوفياتي والكسر مع سلطويته الإملائية، والأول في... كل ما يمكن أن يخطر أو لا يخطر في البال. وعليه، فليس ما يمنع من يوم يأتي ويقول فيه إنه الأول في اكتشاف... النار!في حواره الأخير مع الزميلة المتمكّنة نوال نصر يكرر مجدداً، من جملة ما يكرّر، الخلاصات السياسية والثقافية والحياتية... إياها. وهي في معظمها خلاصات لا رابط يربطها بالواقع الفعلي، وإنما خلاصات «سكونية» ولدت من رحم التأمّل الذهني الصرف! عدا واقع أن هذه الخلاصات لم تتيسّر له، أو لم يحظَ بها، إلا بعدما استنفد امتيازات وعطايا «الموقع» الحزبي، وقد كانت من الكثرة والوفرة، ما جعلها تقلّب المصائر الشخصية لكثير من الحزبيين وحتى أشباه الحزبيين، وترفعهم من قاع اجتماعي وسياسي وثقافي آسن وضحل إلى ما هو عكسه تماماً. وهو الموقع نفسه المسؤول، ولو أصرّ على النفي من خلال قوله لزميلتنا بالحرف: «الحزب الشيوعي الموجود اليوم لا علاقة لي به، لست ضده ولست معه، ولم أعد أبالي به، ولا أحد له عليّ شيء». فموقعه في الحزب مسؤول عن صنعه وقولبته وتشكيله سياسياً وثقافياً واجتماعياً... وبالعودة إلى الخلاصات، فهذه الأخيرة لم تنجم، على ما يحاول الإيحاء، عن «وحي جبرائيلي» توقّع حيثياته سلفاً فكان أن أعدّ للخروج في توقيت اختارته الصدفة البحت، وكأن لا علاقة له، بالرغم من التزامن العجيب، بالانكسار الذي أصاب الفكرة ولا بانهيار ثمرتها السوفياتية، وتالياً بتلاشي الامتيازات وتراجع العطايا السياسية والثقافية والاجتماعية على ما يحاول أن يوحي... لكنّ المؤسف أن وعيه اللبناني الجديد، وبخلاف ما أمل، لم يفتح له باب الخلاص الذي أراده، ولم يمكّنه من تجاوز الصفحة أو أقله طيّها. فبقي، وربما من غير أن يعي، وحاله في ذلك من حال من سبقه أو لحقه من رفاق «التوبة» المشبوهة، عند الزمن السابق على زمن «الوعي الديمقراطي الجديد». ولعلّ الدليل على ذلك هو في إدمانه على الحديث إياه. فلا حديث له غير حديث الماركسية الفاشلة، ولا كلام له غير الكلام عن أعطابها... فضلاً عن التصويب الدوري، وكلما أتيحت الفرصة، على «مكامن الخلل العضوي التي أودت بها» وجعلتها، أي الماركسية، بالنسبة إليه موضع استفظاع وإدانة وشجب واستنكار بدلاً من أن يكون الأمر فرصة للبحث العملي والتأمل النضالي في حال الإنسانية ووجوب الكسر مع واقعها الذي ازداد قتامة بعد انهيار التجربة التاريخية العظيمة.
ففي الحوار إياه يكرّر ويعيد، من غير أن «يتعب»، على ما أوردت الزميلة نصر، ما صار مختصاً به من «مقاربات نقدية». وهي مقاربات قلّما تخلو من أحكام قاطعة كسيف عنترة أو المهلهل وغيرهما من حملة الصوارم، وهي، بالمناسبة أحكام لا قبل لمفكر ماركسي (سابق أو لاحق) أو غير ماركسي بها، وهدفها الواضح، الأول والأخير، التصويب على المقاومة فكرةً وتنظيمات، أمانيَ وتطلعات... بل إن الحكم على الماركسية والجهر بنهايتها المزعومة يبدو على لسان مروة أقرب إلى التمنيات منها إلى النقد أو المراجعة، وهو في إصراره على تناولها السلبي لا النقدي يبدو كمن عليه أن يؤدّي واجب تصفية حساب قديم بما يؤهّله لاستخراج سجل عدلي جديد يؤكد فيه حقيقةَ ونوع التوبة السياسية التي يبدو أنه لم ينجح حتى اللحظة، بالرغم من كل ما بذله، في تأدية كامل فروضها المطلوبة، وهذا طبعاً، من دون إغفال وجوب أداء المتمّمات المتصلة بها.
طبعاً، من حقّ الرجل، كما من حقّ غيره، من المتمركسين السابقين، أن يغيّر في قناعاته وحتى أن يرتدّ، ومن حقّه أيضاً أن يشهر ارتداده على الملأ. إلا أن ما ليس من حقّه، ولا من حق غيره، من الذين غدروا بالفكرة وطعنوا بالممارسة وشوّهوا التجربة... الإصرار على ممارسة رياضة الاستهانة بعقول العارفين والعارفات. فبعض هؤلاء العارفين والعارفات، يعرفون ويعرفن حجم الأدوار وطبيعة المهمات التي أنيطت بهذا أو بذاك ممن تعاقب على المرور بحزب لم يبخل عليهم برفعهم وعياً ومكانة... وأتاح لهم كل ما كان بالنسبة إليهم مستحيلاً سياسياً وثقافياً واجتماعياً... هذا فضلاً عن أن أسبابهم المعلنة في الارتداد وظروف هذا الارتداد وملابساته لا أساس واقعياً لها إلا حين تتصل بالمصالح المباشرة أو الفردية الضيقة. وهذا ما لا يسع الكلمات أن تغوص فيه اليوم.
بقي أن نقول إن «مجهر» الزميلة نوال نصر ليس بمجهر للإضاءة فحسب، بل هو في الواقع، وربما خلافاً لفكرتها، مبضع، أو فرشاة تنقيب عن أحافير السياسة ونواويسها المنسيّة أو المرمية هنا وهناك وهنالك... وفي إشارتها، في ختام الحوار، إلى الغرور أكثر من دالّة.