ليس أشنع من الجهل وصنعه إلا المشاركة في نقله. والأشنع من هذا وذاك أن صانعه أو ناقله غالباً ما يكون غافلاً عن صنيعه. وإذا كانت مصلحة الصانع الأصلي معروفة ومكشوفة، فإن السؤال هو عن مصلحة الناقل الذي هو في الواقع أول الضحايا و«أبلههم». وهو أبلههم لسبب غاية في البساطة، يكمن في ارتضائه، وبزهو (مرضي) يُحسد عليه، لعب دور الأداة البلهاء التي لا تعي ما تقول ولا تدرك ما تفعل. وبما أن الأداة أداة ولو تزيّنت وتمنطقت، فقد تذهب بعيداً، بل وأبعد مما أريد لها، سواء لجهة التماهي مع مضمون الجهل السام الذي تبثّه، أو لجهة الدفاع عن ذلك الذي يكتب لها وتوقّعه بخيلاء يدعو إلى الخجل منها وعنها، إذ يصل بها التماهي والاستغراق فيه إلى حدّ رفع الصوت أعلى من صوت سيدها، والمزايدة عليه وتعييره! وهل يمكن نسيان الحملة «العنصرية» التي شُنت على باراك أوباما حين فرضت عليه المعادلات «التراجع» عن تهديداته بقصف دمشق، أو الحملة المسعورة التي سبقت غزو بغداد ومهّدت له وحرّضت عليه، وفي مقدّمها ما سُمي يومها ببيان مشين حمل توقيعات بعض من يُسمون بـ«المثقفين العرب»، أو صلوات وابتهالات بعض اللبنانيين وأسيادهم من سفلة العرب ومطاياهم، وتماهيهم مع العدو في حربه على لبنان في تموز 2006، أو «تجاسر» بعضهم شبه المكشوف في ملاقاة العدوان بسياسات وإجراءات استهدفت عرقلة وقطع طرق النقل والإمداد اللوجيستي للمقاومة، ناهيك بالتآمر السياسي المفضوح من خلال الإصرار، أكثر من العدو نفسه، على استمرار الحرب حتى تحقيق ما أُعلن من أهداف أو رُسم من خطط... وغيرها الكثير من الشواهد التي لا تُحصى ولا تُعدّ على مستوى الانحطاط الوطني والقيمي والأخلاقي لـ«ساسة» و«مثقفين» يخجل بهم الوضيع لتفوّقهم عليه، ويأنف منهم القذر لتقدّمهم عليه. وكأنهم بذلك يحاولون، عبثاً، تبرير أنفسهم، أو تبرير صنيعهم الذيلي الذي غالباً ما يصعب تبريره إلا بالمزيد من الذيلية... ولنا، اليوم، في أدوار المدافعين عن رياض توفيق سلامة وصحبه من اللصوص، أو أولئك الذين تخصّصوا في شتم المقاومة وامتهنوا محاولة تشويه دورها عبرة ومثال عن طبيعة ومعدن وحقيقة هؤلاء الذين لا يستحقّون غير الاشمئزاز.وإلى هذه المفارقة التي لا حل لها إلا بما يليق بها وبارتكابات أصحابها الشنيعة الذين وإن تأخر يومهم فلا بد من أنه آت، تأتي المفارقة التي لا تقلّ رداءة. فإلى جانب هؤلاء الموسومين بالذيلية المصحوبة بالدونية والتفاهة والارتهان اللامحدود، يأتيك «حشد» من ممارسي الصحافة أو من ممارساتها بألوان مبتكرة من الجهل والتجهيل، كأن يحتفي بعضهم بمناسبات معيبة يصعب الاحتفاء بها، أو يعمد بعضهم المتمّم إلى نبش ذكرى مشينة ومحاولة إلباسها أثواباً وطنية وقيمية لا علاقة لها بها، أو اختراع سرديات لم تقع، وبطولات لم توجد، أو تجميل وجوه يصعب تجميلها من شدة قباحتها أو... أو... من الممارسات التي تتعارض مع أبسط قواعد المهنة وأعرافها. فألف باء الممارسة الصحافية توجب على ممتهناتها وممتهنيها، أقله من باب البداهة والمهنية ولو بحدودها الدنيا، الابتعاد عن التزوير، خصوصاً حين يكون فاضحاً، والعمل على صدّ الجهل إن تعذّرت محاربته، والقول بالمعرفة والاشتغال على تعميمها... وهنا، من اللازم الإشارة إلى أن القول بالمعرفة وتعميمها لا يتعارضان مع الانحياز السياسي ولا ينتقصان منه. بل إن الانحياز السياسي، العاقل والمسؤول والمعلّل سياسياً ووطنياً وأخلاقياً، مطلوب ومرغوب ومن شأنه أن يعزز من مصداقية الطرح وأن يغنيه، وإلا انتفى معنى الممارسة المهنية وضاع مضمونها، على نحو ما صار عليه الحال به في غالبية المنابر، وفي مقدّمها تلك المموّلة تمويلاً فائضاً وما أكثرها، والتي باتت بمثابة غرف صدى لعواصم القهر والعدوان الإقليمي والدولي وامتداد سرطاني لسياساتها المجرمة ولساستها التافهين. ولكن، وبالعودة إلى أول الكلام، فإن التدقيق في طبيعة النقل السائد ومعانيه، هذا إذا أغفلنا طبعاً هوية الناقل وميوله، يقودنا إلى اكتشاف أن ناقلتنا الكريمة أو ناقلنا الكريم هو، في الواقع، أقرب ما يكون إلى الببغاء الأبله الذي لا يملك، جينياً، إلا أن يردّد ما يقال له ولو كان كذباً مفضوحاً. أو ربما أمكن تشبيهها أو تشبيهه بالدمية التي تعيد قول ما لُقّن لها من كلام أو «أفكار»، وهو ما يُعرف، اصطلاحاً، بالدمية الناطقة تمييزاً لها عن الحيوان الناطق.
فالدمية دمية ولو بُشّرت أو بُشّر بها ولها وعنها.
والدمية دمية ولو كانت بشراً ناطقاً.
والدمية دمية ولا يسعها إلا أن تبقى كذلك مهما أتت من أفعال القتل والفتك والذبح على الهوية...
والدمية دمية ولو امتطت الدبابة الإسرائيلية، وتسلّحت بأسلحة العدو.
والدمية دمية، وستبقى كذلك ولو صارت... رئيساً منتخباً.
في عام 1982، وفي خضمّ نشوة العدو ودماه المحلية بتدمير بيروت وتسوية الكثير من عمرانها بالأرض... أريد لدمية إسرائيلية الصنع، رجعية الرعاية، خليجية التمويل أن تحكم القرار اللبناني... لكنّ المدينة التي كانت لا تزال في خضمّ الدفاع عن ناسها، وقاتلت لأكثر من ثمانين يوماً وحاصرت الحصار العربي والدولي، أبت إلا أن تواصل قتالها، وذلك رغماً عن الانكسار البيّن في موازين القوى، نتيجة خروج المقاتلين الفلسطينيين والجنود السوريين والثوار الأمميين. فكان أن كلّفت سورياً قومياً اجتماعياً هو ابنها المناضل حبيب الشرتوني، بتنسيق من المناضل نبيل العلم، بالتصرف. فكان القرار التاريخي الحاسم والشجاع بإعدام الدمية التي خُيل لها ولصانعيها في تل أبيب وعواصم الرجعية العربية، أنها صارت رئيساً. وهو ما أسهم في قلب طاولة الاجتياح، وإعادة خلط الأوراق، والتأسيس لوضع مغاير فتح الباب الواسع أمام الكسر مع الواقع السياسي والعسكري المفروض، وساهم في قطع الطريق أمام ما كان يُعدّ لبيروت وفلسطين ودمشق وغيرها من عواصم الرفض من مشاريع أسرلة وصهينة... وهو القرار التاريخي الذي سرعان ما أفضى بعد أقل من عقدين إلى دحر العدو عن معظم التراب اللبناني بفعل المقاومة.
نعيش في عالم يعجّ بالدمى. وهي بغالبها دمى أميركية المنشأ إسرائيلية الرعاية وخليجية التمويل. وهي على قدر من الكثرة والتنوّع والتكاثر... والانتشار. ولا تخلو عاصمة عربية من واحدة منها أو أكثر... تجمعها الأوهام وتفرّقها المصالح وتباين الأدوار والمهمات. ومع ذلك فإن لكل واحدة من هذه الدمى دوراً مرسوماً تلعبه ووظيفة محدّدة تقوم بها. وفي حال التداخل ثمّة جنرال حرب غالباً ما يكون من رتبة «سفير» أو «سفيرة» يتولى أو تتولى إعادة ترسيم الأدوار بما لا يؤثر على مجمل اللعبة وأهدافها التي تسمو على سائر الأهداف الآنية أو المرحلية. وعليه، يمكن القول إن عالم الدمى من عالم الواقع. ويكاد الفصل بين العالمين أن يكون ضرباً من المستحيل. وكل قول آخر هو محض وهم، وهو من باب التمويه الذي يراد به تعميم الخداع ونشر التضليل وتأبيدهما. وبحكم هذا الواقع العربي والعالمي التعس فإن معركة الإنسانية مع الدمى ومحرّكيها معركة شاملة ومفتوحة، وها هي قد بدأت من روسيا، وليس من روسيا فلاديمير بوتين وحده على ما تحاول الأدوات والدمى القول، بل من روسيا لينين وغوركي وجوكوف وماياكوفسكي وتشيخوف وتورغينيف وغاغارين وأخماتوفا وتشايكوفسكي ودويستوفسكي وبوشكين وتولستوي وغوغول... روسيا التي يخوض شعبها وجيشها حرب بقاء البشرية وديمومتها بعيداً عن أشكال الاستعمار وأنواع الهيمنة والاستغلال والقتل والترويع والوحشية والعبودية... التي وسمت عالمنا منذ زهاء خمسمئة عام هي عمر السيطرة الغربية الجحيمية على مفاصل العالم ومقدّرات ناسه وشعوبه.