لما حصل على فالق غزّة تداعيات أممية. أبسطها التكاثر أخيراً لمشروبات الكولا من الماركات اللبنانيّة وغير اللبنانيّة التي تقع خارج الثنائي المهيمن على نكهة الكولا عالميّاً. في سعودية الترفيه، هرع تركي «أبو ناصر» الشيخ إلى مكافحة تراجع مبيع همبرغر لحم الكلاب والجرذان التي تدّعي شركة ماكدونالدز أنّها مأكولات صالحة للاستهلاك والهضم في معدة بشريّة. فعليّاً، إذا تَهدَّدَ عمل كبريات شركات المشروبات الغازيّة والسكّريّة وفرنشايزات الإبدان والكوليسترول وانتفضت لإنقاذ أرباحها، فهي قد تسبّب خطراً وجوديّاً لكلّ من يعترض دولاراتها. القتل البطيء الذي تمارسه يصبح سريعاً وتاريخها حافلٌ بتحطيم أي محاولة لانتقاص ولو سنتات معدودة من ثراء أصحابها، لكنها لم تضطرّ حتّى اليوم أن تواجه خصماً بثقل «إسرائيل». ولا نقول خصماً لأن «إسرائيل» تعادي هذه الشركات، بل لأن تصرّفاتها ضمن منظومة رأس المال العالمي قد تكون وصلت إلى حدٍّ يهدّد أرباح أسيادها وأسباب وجودها. في عالم رأس المال كل الحسابات حسابات ربح لقلّةٍ لا تخسر، فعلى كل استثمار أن يثقل جيوبها أكثر وأكثر ولو فَنَى الكوكب. في المركز الإمبريالي تعاد الحسابات كلّ ثانية وتتناثر أرقاماً متغيّرةً على شاشات أسواق الأسهم في عواصم رأس المال. الأرباح والخسائر تقاس بأجزاءٍ بالمئة وبالألف، وأيّ خلل في المعادلة يغيّر كل اعتبار.أحد أشد المعجبين بهذه الصورة القبيحة للعالم هو القبيح خافيير ميلاي الفائز في الانتخابات الرئاسية الأرجنتينية قبل أيام. البعض يقارنه بدونالد ترامب، لكنّ ترامب جزء من نادي مصّاصي الدماء. لذلك، الأقرب إلى ميلاي هو كميل شمعون، كما أشار أحد المعجبين به على تويتر. فميلاي يحتقر الفقراء علناً كما فعل كميل شمعون، لكنّ ميلاي - وكذلك كميل - لا ولم يملكا فرصة إلا أن يكونا خدميْن للهيمنة. لكن ما حدث في الأرجنتين هو الشاذ عن القاعدة التي تثبّت زواياها في العالم اليوم. فليعيشوا زمن كميل شمعون إن أرادوا، لكن دعوني أعرّفكم إلى حفيده «النائبة» في البرلمان اللبناني. أمزح طبعاً. انسوا شمعون. أتذكرون أياً من نواب برلمان لبنان بكلّ طوائفه وتغييريّيه؟ احفظوا جيّداً أن هذا هو حجم مجلس نوّاب لبنان مجتمعاً في حسابات العالم وقتَ الجدّ عندما تخرج الآلات الحاسبة، وكل نائب فيه يساوي أقل من واحد في المئة من اللاشيء المُسمى برلماناً لبنانياً.
نكسة ميلاي لا تعكس ما يجري حول العالم منذ طاف الأقصى إلى أصقاعه. تشهد فنزويلا بعد أسبوعين استفتاءً حول السيادة على إقليم الإيسيكيبو. وهو إقليم استعمرته بريطانيا ضمن غويانا البريطانية التي تجاور غويانا الهولندية (أصبح اسمها سورينام) والتي بدورها تجاور غويانا الفرنسية. والغويانات الثلاث تبعد آلاف الكيلومترات عن القارة العجوز. الاستفتاء الدستوري تحدٍّ لشركات تقارب شركات الكولا والهمبرغر قوّةً ونفوذاً، لكنها على عكس تلك الشركات لا يهمّها البشر بل الحجر، إذ إن عدد سكان الإقليم الذي تفوق مساحته خمسة عشر ضعف مساحة لبنان يقلّ عن عدد سكان مدينة زحلة. تستثمر في غويانا شركات تهمّها أرض البلاد ليس لإنتاج اليوكا (جذور تشبه البطاطس) والبلاتانو (يُعرف بالموز الأفريقي في بلادنا)، بل بسبب ما في جوفها من نفط ومعادن. ولطالما كانت موارد هذا الجزء من غويانا كرمى لعيون أجداد تشارلز البريطاني على حساب سكان الأراضي المجاورة الذين سكنوها أباً عن جد. الاستفتاء في الثالث من كانون الأول، والمعركة الحقيقية أو الحرب، تبدأ في اليوم التالي. عيد استقلال لبنان يسبقه بعشرة أيام ويوم، لكنّ استقلال لبنان المحتفى به يساوي برلمانه.
استقلال فلسطين أقرب من أيّ وقت مضى، لكنّه ليس اليوم. استقلال فلسطين ليس معنيّاً بحربٍ في سهول أوكرانيا ولا في المعارك على جزر المحيط الهادئ. لكنْ لما حصل على فالق غزّة تداعيات أمميّة. عند الحديث عن أكبر القوى الاقتصادية العالمية، الصين الصاعدة والولايات المتحدة الأميركية المتهالكة، يجري نقاشٌ حول فك الارتباط الاقتصادي بينهما لضمان تفوّق إحداهما في كبرى معارك الاقتصاد العالمي. نحن بعيدون بضع سنين عن التنافس معهما اقتصادياً. في مرحلة التحرّر والاستقلال، مؤشراتنا الحيوية ليست في ساعات التغذية الكهربائية ولا في القدرة الشرائية. مؤشراتنا الحيوية هي في كم تجبر الذي لا يحسب لك حساباً على إعادة حساباته. قد لا تؤثّر قارورة «كازوزة» وهمبرغر، لكنّ القوارير التي تمرّ عبر باب المندب يُحسب لها ألف حساب. من يروّج للماكدونالدز اليوم وسيّده ليسا إلّا شمعونيّين وإن كانت جيوبهما مثقلة أكثر، وأيديهما ملطّخة بدماء أكثر.
في عالم فيه من يهوون مصّ دماء الأحياء ليرتقوا فرادى، لن يكون استغلال دماء الشهداء إلّا استقلالاً وشعوباً تستغل دماء من ضحّى لترتقي جماعةً. هذا هو استقلالنا، مصالح الجشع قد تستغني عن «إسرائيل» لحماية جشع أربابها في يوم قريب، لكنّ استقلالنا لن يكون إلّا إذا كان من أرباب الجشع جميعاً.