طبعاً من ناحية، يمكن أن يتفهم المرء هذا الغرور والادّعاء من جانب نتنياهو، مع هذه الضربات، وفي مقدمتها غياب سيد المقاومة. ولكن هذا الفهم سرعان ما يتبدّد، إذا ما أخذ في الحسبان بأن حزب الله، رغم فداحة الخسارة، هو حزب مقاوِم وشعبي وعريق، ويعجّ بالقادة العسكريين والسياسيين.
وهو الحزب الذي نما على يد الشهيد الكبير السيد عباس الموسوي، وترعرع واشتدّ ساعده على يد قائده ومربيه وملهمه السيد حسن نصرالله. فالسيد لم يغادر، إلّا بعد أن ترك وراءه من يتابع الطريق بكل جدارة وأهلية. بل يجب أن يُضاف أن فقدان الشهيد السيد حسن نصر الله ومن قبله، ومن بعده، من شهداء زادوا، وسوف يزيدون، من قوّة حزب الله، والتفاف الجماهير. فهذه الشهادة تبثّ روحاً استشهادية، تضاعف من القوّة والعزيمة. وسيجد نتنياهو أن عنجهيته، وأوهامه انقلبت عليه.
ثمة بُعد يجب أن يُحسب أمام هذه الضربات، كونها خارجة عن المساس بميزان القوى السابق، كما اللاحق، وهو ميزان لا تغيّره اغتيالات قادة وكوادر، أو ضربات غادرة في جزء من جسم الحزب، فيما ذلك الجسم، من جهة التسليح والتنظيم والقدرات والكفاءات، والاحتضان الشعبي، يظل خارجاً عن مجال تأثير الاغتيال، أو عمليات الاختراق. فهذه وتلك لا تكسب حرباً، ولا تبني ميزان قوى، وإنما تأثيرها يحصر في البُعد الفردي والمعنوي، فضلاً عن العاطفي، وما يُخلفه من أحزان الفقدان.
فعلى سبيل المثال، كان فقدان السيد عباس الموسوي، أمين عام حزب الله السابق، ثقيلاً ومروعاً. ولكن الحزب أعاد ترتيب صفوفه، واختار السيد حسن نصرالله، الشاب، ليكمل المسيرة. واستمرت حرب المقاومة على طريق الانتصار، وانتصرت.
الشاهد هنا، أن الخسائر الناجمة عن الاغتيالات الفردية، والاختراقات، مؤلمة ومؤثرة معنوياً، ولكن ميزان القوى الأساسي، من جبهتيه، جبهة العدو وجبهة المقاومة، سرعان ما يعود إلى وضعه الطبيعي. وذلك بعد أن يخف تأثير الخسائر الناجمة عن اغتيال الأحباء، والأفذاذ، وبعد لأم الجراح الناجمة عن اختراقات غادرة.
الضربات التي تعرّض لها حزب الله، لم يعد من الممكن تكرارها، عدا الاغتيال الذي لن يمنع من إنزال هزيمة برّية في الجيش الصهيوني
من هنا، فإن الأيام السبعة من شهر تشرين الأول/أكتوبر 2024، عاد فيها حزب الله من حيث حربه المساندة لغزة، وحربه المدافعة عن لبنان، ليضرب في العمق ضرباً أشدّ تأثيراً من المرحلة السابقة. فقد أصبحت ضرباته تركز على حيفا، وقضاء تل أبيب، فضلاً عن استمرار ضرب الغلاف الشمالي من فلسطين.
بل يجب علينا أن نتعلّم من درس التاريخ، والتجارب الثورية، بما فيها تجاربنا، بأن الجيل الجديد الذي يتسلم، بعد الجيل المؤسس، كثيراً ما يكون قد تعلم الدرس، وآن له أن يصبح أستاذاً، ويُبدع. إنها سنّة الله في خلقه، وفي المقاومة والجهاد، والدفاع عن الحق والعدالة، وردع الظالمين.
إن نظرة سريعة في تقدير الموقف، يجب أن تبدأ، كما يقتضي المنهج الصحيح، في قراءة موازين القوى، من مراجعة وضع القوى المسيطرة. وهنا أولاً، تكون البداية من أميركا التي هي "الشيطان الأكبر"، والأساس وراء كل شر، والداعم لكل الجرائم التي ارتكبها ويرتكبها نتنياهو، ولنقل منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 إلى اليوم، وبالطبع قبل ذلك أيضاً، بكل تأكيد.
يمر الوضع الداخلي الأميركي بشيخوخة الرئيس، وما تمثله من ضعف وسياسات حمقاء أو فاشلة. ويمر أيضاً بمنافسة انتخابية رئاسية يتهدّد فيها المرشح دونالد ترامب بأن الدم سيسيل، إذا خسر الانتخابات، فيما الدولة العميقة قد وضعت كل جهدها لتتغلب هاريس عليه، بالتصويت العادل أو بسواه. ما يجعل أميركا في حالة من الارتباك، وفي حالة من الضعف في ميزان القوى، وفي إدارة الصراعات. فضلاً عن انجرار بايدن وراء نتنياهو، طوال العام الفائت.
ونظرة سريعة إلى وضع الدول الكبرى الأخرى، سواء أكانت الأوروبية منها، أم روسيا والصين والهند، ودول إقليمية تنامى تأثيرها الإقليمي والدولي، مثل إيران وتركيا والبرازيل وجنوبي أفريقيا، يشير إلى تفكك دولي عام. ما يجعل الوضع العالمي في حالة ارتباك، أو لا يقين، خصوصاً وأمريكا فاقدة للبوصلة بين دعم نتنياهو، والتآمر على المقاومة في غزة ولبنان، ومحور المقاومة، عموماً، من جهة، وبين صراع إستراتيجي مع الصين التي تتهيّأ للحلول مكانها في مرتبة الدول الكبرى رقم 1 في العالم، من جهة أخرى.
هذا الميزان يسمح لمحور المقاومة، ولا سيما للمقاومتين في فلسطين ولبنان، أن تصمدا في الحرب وتتقدما، نحو إنزال الهزيمة بنتنياهو، وجيشه.
إن القراءة الموضوعية لنتائج الحرب البريّة في قطاع غزة، طوال العام المنصرم من أكتوبر 2023 إلى أكتوبر 2024، تثبت، عبر الوقائع، أن يد المقاومة كانت هي العليا في كل المواجهات الصفرية، على اختلافها. فمن الناحية العسكرية البحتة، سيكون هذا هو المستمر للأشهر القادمة. وذلك رغم احتدام الحرب في لبنان، وربما مع إيران، وفقاً للرد الصهيوني المتوقع.
أما حرب الإبادة، فهي المستمرة، بدورها، ما دام الجيش الصهيوني غير قادر على حسم الصراع، بل راح يتلقى الهزائم. وقد ازداد ضعفاً. وبهذا أصبح الإيغال في حرب الإبادة، الردّ الوحيد لديه عسكرياً.
على أن انتقال مركز الثقل في الحرب العدوانية، ذات الطابع الإبادي، إلى لبنان، جعل نتنياهو يغيّر هدف وقف مساندة قطاع غزة، وإعادة الهاربين من غلاف الشمال، إلى حرب تستهدف قدرات حزب الله، والسعي إلى القضاء عليه. ما يفسّر التدمير الهمجي، للضاحية بصورة خاصة.
ومن هنا، لم يعد من الممكن وقف هذا التصعيد، إلّا بإنزال الهزائم بالجيش الصهيوني. وذلك كما حدث في عام 2006 وهو يحاول احتلال أجزاء من الجنوب. فنتنياهو تبنى، واهماً، إستراتيجية أوسع، وصلت إلى حد التلويح بإعادة تشكيل "خريطة الشرق الأوسط". وهي إستراتيجية متصادمة مع موازين القوى العالمية والإقليمية واللبنانية.
مرة أخرى، إن الضربات التي تعرّض لها حزب الله، لم يعد من الممكن تكرارها، عدا الاغتيال الذي لن يمنع من إنزال هزيمة برّية بالجيش الصهيوني، ستقرر مصير ما يعلنه نتنياهو من هدف إعادة التشكّل لخريطة المنطقة. فالذي يعاند ميزان القوى، كما يفعل نتنياهو، لا ينتظره غير الفشل والهزائم أمام مقاومة وشعب، شعارهما الملتهب: لبيك نصر الله.
*كاتب وسياسي فلسطيني