تمثل المستشفيات الحكومية ملاذاً لكثير من السوريين، بسبب توافر معدات متطورة في بعضها، ووجود الأطباء المهرة، فضلاً عن أنها أقل تكلفة من المستشفيات الخاصة. لكن هذا الملاذ لم يعد «آمناً» لكثيرين، بسبب الرسوم التي يفرضها بعض هذه المستشفيات على خدماته، والتي تكون في كثير من الأحيان مرهقة في ظل تدني مستويات الدخل. رغم ذلك، ما زالت هذه المستشفيات «حالة نموذجيّة» بنظر السوريين المقيمين في دول الجوار.«أصابتني جرثومة في معدتي، ودخلت إسعافيّاً أحد مستشفيات بيروت. طلبوا مني 200 دولار أوّلاً، ثم أخبروني بوجوب دفع 400 دولار أخرى لتلقي العلاج. خرجت على الفور من المستشفى وعدت إلى سوريا، حيث العلاج مجاني». بهذه الكلمات يختصر سامر حكاية وعكة صحية عابرة ألمّت به خارج وطنه. لم يجد الشاب «أرحم» من المستشفيات السورية العامّة، فعاد إلى دمشق خلال عاصفة ثلجية تسببت في انقطاع بعض الطرقات، «لم يكن أمامي حلّ آخر، لم أستطع دفع تكاليف العلاج هناك، فغامرت بالسفر»، يقول. ويضيف «في مستشفى المواساة تلقيت كامل العلاج، وبقيت أربعة أيام قبل أن أخرج معافى، لأعود إلى لبنان حيث أعمل».

واقعٌ «ليس ورديّاً»
في أحد المستشفيات الحكومية في حلب، ينتظر أبو ماهر دوره لإجراء صورة «الطبقي المتعدد الشرائح» ليتمكن من معالجة مرض في شرايينه. «رح ندفع 25 ألف (نحو 50 دولاراً)»، يقول. ويضيف «يمكن المبلغ كبير بس بيبقى أقل بكتير من المستشفى الخاص». استطاع أبو ماهر تأمين كلفة الصورة، لكنّه يخشى ما ستكشفه، وطبيعة العلاج الذي سيحتاج إليه «ان شالله تنحل بالدوا، وما أكون بحاجة لشبكة لأنو ما معي أشتريها». في مثل هذه الحالات، يقتصر ما تقدّمه المستشفيات الحكومية مجاناً على الخدمات فحسب، ولا تقدم للمريض المستلزمات الطبيّة، (مثل الشبكة الوعائية في حالة أبو ماهر، أو المفاصل الصناعية، أو الأسياخ المعدنية اللازمة لبعض الكسور، وغيرها)، ليكون على المريض شراء ما يحتاج إليه، بمبالغ قد تصل في بعض الأحيان إلى مئات آلاف الليرات. يشرح مصدر طبي لـ«الأخبار» أنّ «المقصود بالخدمة المجانية أجور الأطباء، وغرفة العمليات، وحتى غرفة العناية، إضافة إلى بعض الأدوية والمحاليل الطبية». يقول المصدر «لكل مستشفى إمكانيات محددة، ولا تقدم المستشفيات الحكومية كل شيء»، ويضيف «بعض الصور والتحاليل قد لا تكون مُتاحة، أو تكون مكلفة، لذلك يقوم بعض المستشفيات الحكومية بفرض رسوم عليها، كما يطلب من المريض شراء بعض المعدات من خارج المستشفى». تتوزع تبعيّة المرافق الصحية العامة على أربع وزارات «الصحة، التعليم العالي، الدفاع، الداخلية»، وتمتلك كلٌّ منها مستشفيات ومراكز طبية وعيادات.
تبقى الأسعار «الزهيدة» مرهقةً لشرائح من السوريين

كذلك، يمكن تمييز ثلاثة أنواع من المستشفيات: الخاصة، الحكومية التابعة لمديريات، والحكومية ذات الاستقلالية (الهيئات المستقلة) التابعة لرئاسة مجلس الوزراء مباشرة. تقدم المستشفيات التابعة لمديريات (مثل مستشفيات مديريات الصحة) جميع خدماتها مجاناً، فيما تقدم مستشفيات الهيئات المستقلة بعض خدماتها بشكل مأجور. وتعاني المستشفيات التابعة لمديريات من عدم توافر كثير من المعدات المتطورة، وعدم توافر أقسام لمعالجة أمراض معينة، ما يتطلب تحويل المرضى إلى «مستشفيات الهيئات» التي تتوافر فيها هذه المعدات بشكل مأجور. وإذا كانت الأجور المستوفاة «زهيدة» قياساً بدول الجوار، فإنّها تظلّ مرهقةً لشرائح واسعة من السوريين بفعل انهيار قيمة الليرة، وتدنّي مستوى الدخل. كذلك، يعاني السوريون من تفاوت مستويات الرعاية الصحية بين محافظة وأخرى، وحصر علاج بعض الأمراض في مستشفيات محددة في العاصمة، ما يعني إرهاقاً مادياً مضاعفاً بسبب تكاليف السفر، ويتسبب ذلك في ازدحام شديد على مستشفيات العاصمة، ما يؤثر على جودة الخدمة.

«فرق عملة»
رغم الحرب، ما زال عدد من السوريين يقصدون بلدهم لتلقي العلاج طمعاً بـ«مهارة الطبيب السوري، وانخفاض كلفة العلاج مقارنة بسعر صرف الدولار»، على حد تعبير أكثم، وهو مهندس يعمل في أبو ظبي. تحمّل الرجل ألم أسنانه سنوات، وحين عادت العلاقات بين الإمارات وسوريا استقل طائرة وعاد لزيارة أهله، ومعالجة أسنانه. أما محمّد، فقد قصد بلده قادماً من مصر بغية معالجة أسنانه، قبل أن يسافر ليستقر في النروج. وبعد فتح الحدود البرية بين سوريا والأردن، بدأ عدد من الأردنيين دخول سوريا بغية تلقي العلاج أيضاً. إضافة إلى ذلك، يتوافد كثير من مواطني دول الجوار (لبنان بشكل خاص) إلى سوريا لإجراء عمليات تجميلية.

أردوغان... والطبيب الماهر!
في العاصمة التركية أنقرة، يجلس أحمد الحسن في منزله طريح الفراش، إثر تعرضه لحادث سير قبل نحو عامين ونصف عام سبّب له كسوراً لم يُشفَ منها حتى الآن. في محادثة هاتفيّة يروي الحسن لـ«الأخبار»، ضاحكاً، حكايته التي لعب فيها الرئيس التركي رجب طيب اردوغان دوراً محورياً! قبل أيام من وقوع الانقلاب الفاشل في تركيا (15 تموز 2016)، وقع الحادث، وأُسعف الرجل إلى مستشفى «نيمونة» الحكومي في أنقرة. يقول «خضعت لعملية جراحية، ووُضعت تحت الرقابة تمهيداً لإجراء عملية أخرى. في صباح أحد الأيام، (قبل وقوع الانقلاب بساعات) تم إفراغ المستشفى من جميع المرضى، بمن فيهم أنا. اضطررنا إلى استئجار سيارة إسعاف قامت بنقلي إلى منزلي على أن تتم متابعة حالتي لاحقاً». لم يعرف الحسن وقتها سبب ذلك الإجراء، ليربط الأمر لاحقاً بمحاولة الانقلاب. «عشت على المسكّنات ثلاثة أشهر، قبل أن أتمكن أخيراً من حجز موعد جديد في المستشفى». اكتشف الأطباء أن عملية جراحية ضرورية قد فاتت الحسن، ما سبّب إعاقة دائمة، من جرّاء كسر في منطقة الورك، أو ما يعرف طبياً باسم «افتراق شعبة عانيّة»، خلّف أذية في المفصل الذي تكلّس بسبب عدم إجراء العملية. كذلك أصيب بمشكلات عصبية، تبعتها مشكلات في العمود الفقري، بسبب الفترة الطويلة التي بقي خلالها طريح الفراش في المنزل. يعيش أحمد حالياً على المسكنات القوية، وينتقل بين مستشفى وآخر بحثاً عن «طبيب بيفهم»، وفق تعبيره. «أجريت مئات التحاليل والصور، أراجع طبيب العصبية فيخبرني أن المسؤول هو طبيب العظمية، أراجع هذا فيحيلني إلى طبيب البولية، وكله بلا فائدة»، يقول أحمد. ويضيف «أظن أنني لو كنت في سوريا لاستطعت المشي، هناك على الأقل سأجد الطبيب الماهر. المستشفيات السوريّة، رغم الواسطات والمحسوبيات، تبقى كزوجة أب حنون، قد لا نحبها، لكنها ترعانا بلا مِنّة».