لقد نشأنا على هذه السيرة وعلينا الاعتراف بذلك. بعضنا سلّم بها إيماناً، وبعضنا الآخر قرأها قراءة نقديّة لاحقاً. غير أننا، نحن الذين عاصرنا صعود حزب الله والمناخ الديني في ضاحية بيروت الجنوبيّة، وفي الجنوب والبقاع، بعد الحرب الأهليّة اللبنانيّة، مهما كانت خياراتنا السياسيّة أو الثقافيّة لاحقاً، علينا أن نعترف بأثر عاشوراء في بلورة هويّة شخصيّة، لكل واحدٍ منّا. هويّة ينحاز حاملها تلقائياً إلى «المظلومين في العالم». ويمكننا أن نستفيض، فنقول في مرحلة متأخرة من السجال... «المستضعفون في الأرض». إنها هويّة مركبة من تعقيدات الكيان اللبناني، ويتداخل فيها السوسيولوجي بالسياسي، لكن خروجنا من طوائفنا بالمعنى الفرداني للكلمة، نحن تحديداً، لن يعفي أحدنا من آثار العقائد السائدة سابقاً، إذا تركت آثارها في قعر الروح، رغم انقلابها رأساً على عقِب. على هذا الأساس، كان انحيازنا ــ الذي سيبقى ــ إلى القضيّة الفلسطينيّة مسوّغاً وبديهيّاً: الوقوف مع المظلوم ضدّ الظالم. لا للطواغيت، لا للصنم.
ليس هذا حديثاً عن سياسة حزب الله أو غيره، ولا عن «لاهوت شيعي». كثيرون منّا خرجوا من العقيدة الدينيّة خروجاً حاسماً. وفي أية حال تقتضي السياسة ما تقتضيه؛ ولم يستطع الإمام الحسين أن يساير السياسة، كما تقول السيرة الحسينيّة نفسها. ويأتي في تفسير القول، استناداً إلى ما يقوله أصحاب الشأن، إن الثورة الحسينيّة هي «ثورة المظلوم على الظالم في كل زمانٍ ومكان».
إنها مدرسة، بالمعنى الأنتروبولوجي لكلمة مدرسة، أي أنها أكثر من أيديولوجيا، وإذا جاز لنا الحديث عن «لاهوت حسيني»، على غرار اللاهوت المسيحي بمعناه الإنسانوي، فلا مفر من الاستنتاج بأن كل ثورة في العالم تحمل في طيّاتها أبعاداً حسينيّة. بعد ثورة الإمام الحسين، قامت الدولة الأمويّة. ونقدياً، لا دينياً، لم تكن الدولة الأمويّة دولة متسامحة إطلاقاً. ثم جاء العباسيّون، رافعين «ثارات أهل البيت»، لكن في الأساس الأحداث أتت بالحجاج بن يوسف الثقفي الأموي الذي ورث عادة الذبح عن زياد ابن أبيه، وأورثها لمن ورثها. ومما لا شك فيه، بعد كل شيء، أننا سمِعنا عن شعبٍ، أهله جيراننا أكثر من اللزوم. وقيل إنهم خرجوا، قبل ثلاث سنوات، من أجل «الإصلاح»، ثم قاموا بـ«ثورة»، وطالبوا بشيء اسمه «حريّة». وقد رفعوا شعاراً يشبه «هيهات منا الذلّة». وبعد كل شيء، لا يمكننا أن نستغرب حلول الذين حلّوا محل الثورة، كما لا ينفع أي تفسير لظاهرة الحجاج بن يوسف الثقفي بعدما خُذل الحسين قبل ذلك بكثير. ربما، يجب على كل واحدٍ منّا، عرف السيرة الحسينيّة، وآمن بشرعيّتها التاريخيّة كواحدة من أعظم الثورات، أن يسأل نفسه إن كان موقفه في الأحداث الأخيرة هو نفسه موقف أهل الكوفة في كربلاء.