بينما تشهد خريطة الميدان السوري تغيّرات واسعة لمصلحة دمشق وحلفائها، وخاصة مع الإفراغ المتواصل لمحيط العاصمة من الوجود المسلّح، وتعزز التفاهمات الثلاثية بين روسيا وإيران وتركيا، أثار إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حول سحب قوات بلاده من سوريا، تساؤلات عن طبيعة الصراعات المنتظرة في سوريا، وخاصة في مناطق الشرق والشمال. ولم يكتف ترامب بإعلانه المفاجئ قبل أيام، فخرج أمس ليؤكد هذا التوجه خلال مؤتمر صحافي، بشكل واضح وصريح، برغم كلّ الجدل الذي سببه الإعلان الأول، والذي أفضى إلى عدد كبير من التأويلات من قبل مسؤولي وزارتي الخارجية والدفاع الأميركيتين. وجاء هذا التأكيد كما سابقه، مبرراً باقتراب هزيمة «داعش» من جهة، والمصاريف الهائلة التي تدفعها الولايات المتحدة الأميركية في الشرق الأوسط من دون نتائج إيجابية، على حد قول ترامب. اللافت في حديث الأخير، أمس، كان إشارته إلى أن القرار حول سحب القوات سوف يتخذ قريباً «بعد التشاور مع الحلفاء». وبدت هذه الجملة كمقدمة للحديث عن اهتمام السعودية ببقاء القوات الأميركية على الأرض السورية، وهو ما قاله ولي العهد محمد بن سلمان بوضوح قبل أيام. غير أن الرئيس الأميركي أوضح أنه قال للجانب السعودي: «إذا أردتم أن نبقى (في سوريا)... ربما يجب أن تدفعوا»، ليعود ويشرح للصحافيين أن الوجود الأميركي المكلف جداً «ساعد دولاً كثيراً»، لكنه لم يخدم الولايات المتحدة. ولم يفت ترامب التأكيد أن بلاده «انتصرت على داعش، وبإمكانها الانتصار عسكرياً على أي كان... ولكن في أوقات محددة يجب اتخاذ القرار بالعودة إلى الديار»، مشيراً إلى أنه ينوي تكليف وحدات من الجيش بحماية حدود بلاده مع المكسيك.
نقطة مراقبة تركية جديدة في منطقة «تخفيض التصعيد» في إدلب

كلام ترامب أتى بالتوازي مع اجتماع مجلس الأمن القومي لمناقشة الملف السوري والدور الأميركي المفترض في الحرب ضد «داعش». وبرغم أن مجريات اللقاء بقيت خارج التداول الإعلامي حتى مساء أمس، فقد بدا من التصريحات السابقة لمسؤولين في وزارتي الخارجية والدفاع، أن هناك تبايناً في وجهات النظر مع ما أعلنه الرئيس عن «انسحاب قريب». وحاول معظم المتحدثين خلال الأيام القليلة الماضية، الالتزام بالرد التقليدي حول بقاء هزيمة «داعش» أولوية للقوات الأميركية، مؤكدين أن أي قرار بالانسحاب مرتبط بهزيمة التنظيم أولاً، فيما أفادت شبكة «سي إن إن» نقلاً عن مصادر مطلعة، بأن التوجه الرئاسي ترك مسؤولي وزارة الدفاع في حالة إرباك، ولا سيما مع وجود خطة مقترحة سابقة لزيادة أعداد العسكريين العاملين في سوريا، والتي لا تزال تنتظر الموافقة. التباين في المواقف بدا واضحاً أيضاً، خلال ندوة عقدها «معهد السلام الأميركي» ضمّت كلاً من قائد القيادة المركزية الأميركية جوزيف فوتيل، ومدير «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» مارك غرين، والمبعوث الرئاسي الخاص إلى «التحالف الدولي»، بريت ماكغورك. إذ توافق كلام المسؤولين الثلاثة على الدور المهم للوجود العسكري والمدني الأميركي في كل من سوريا والعراق، في تثبيت ما تم إنجازه على الأرض خلال السنوات الماضية. وأشار فوتيل بوضوح إلى أن «داعش» لا يزال ناشطاً في العراق كما في سوريا، بعد تحرير نحو 90 في المئة من الأراضي التي يسيطر عليها، لافتاً إلى أن وضع سوريا أعقد بكثير من العراق بسبب وجود نفوذ لعدد كبير من الأطراف، وإلى أن بلاده تملك دوراً لتأديته في تحقيق الاستقرار هناك، وسوف تستمر في الضغط على «داعش» من جهة، والعمل على «منع التصعيد» من جهة ثانية، عبر القنوات المشتركة بما فيها الدبلوماسية. بدوره، رأى ماكغورك، تعليقاً على أنباء تجميد ترامب 200 مليون دولار أميركي، كانت مخصصة لتمويل العمليات في سوريا، أنها لن تؤثر على عمل القوات هناك، مشيراً إلى أن «الفِرق تملك من الموارد ما يكفي عملها... من دون أن ننسى وجود شركاء آخرين في التحالف». واتفق المسؤولون على أن عمليات «دعم الاستقرار» في العراق أسهل من سوريا بكثير، بسبب وجود «حكومة يمكن التعاون معها». وعن فكرة مجابهة النفوذ الإيراني في المنطقة، أشاروا إلى أن واشنطن تعمل مع الشركاء المحليين في العراق، والإقليميين، لضمان نجاح الانتخابات المقبلة هناك، في حين ركّز المبعوث الرئاسي ماكغورك حين سؤاله عن الملف نفسه في سوريا، على المنطقة الجنوبية، مؤكداً أن العمل جار مع «حلفائنا السياسيين، إسرائيل والأردن»، وأنه تم «إقرار وقف لإطلاق النار هناك بعد دراسة خطوط الفصل متراً متراً، مع الجانب الروسي، الذي وافق على تحييد القوات الإيرانية عن تلك المنطقة».
وترافق الجدل حول طرح الانسحاب الأميركي مع تقارير عن تعزيز العسكريين الأميركيين وجودهم في محيط مدينة منبج، عبر بناء قاعدتين شمال المدينة، قرب خطوط التماس مع القوات التركية والفصائل العاملة معها. ونقلت وكالة «فرانس برس» عن قائد «مجلس منبج العسكري» محمد أبو عادل، قوله إن «التحالف الدولي زاد عديد قواته مع أسلحتها الثقيلة عند خطوط الجبهات ويجري دوريات مستمرة»، مضيفاً أنه «يتم التعامل مع التهديدات التركية بشكل جدي». وتأتي هذه التطورات، بالتوازي مع انعقاد القمة الثلاثية، التركية ــ الروسية ــ الإيرانية، في العاصمة أنقرة، اليوم، حيث يجتمع رؤساء الدول الثلاث لبحث ملف «التسوية السورية»، ضمن مساري أستانا وسوتشي. وأوضح الرئيس رجب طيب أردوغان، خلال استقباله نظيره فلاديمير بوتين، أمس، أن القمة الثلاثية «ستتناول بشكل مختلف مجريات محادثات أستانا»، مشدداً على أهمية «اتفاقية مناطق تخفيض التصعيد... رغم وقوع بعض الانتهاكات»، ومنوّهاً إلى «ضرورة عملية عفرين بالنسبة إلى أمن بلادنا ووحدة أراضي جارتنا سوريا». وبالتوازي، أعلن الجيش التركي إنشاء نقطة المراقبة «الثامنة» في محافظة إدلب ضمن اتفاق «تخفيض التصعيد»، من دون تحديد موقع تلك النقطة.
ويأتي اللقاء الثلاثي في ظل استمرار خروج الحافلات التي تجلي مدنيين ومسلحين من مدينة دوما، وإن بوتيرة أبطأ من المعتاد خلال عمليات الإجلاء السابقة في مناطق أخرى. وبينما بقيت مصادر «جيش الإسلام» صامتة حول الاتفاق، بدا لافتاً أمس أن القافلة الأولى التي انطلقت من دوما ووصلت إلى أطراف مدينة الباب، بقيت ساعات عدة من دون السماح لها بدخول المدينة، قبل أن تنطلق احتجاجات من سكان المنطقة على القرار ومطالبة الجانب التركي بالسماح لها بالدخول، ليصار إلى دخول الحافلات لاحقاً. وبالتوازي، أعلن مصدر عسكري أن أكثر من 40 ألف مدني عادوا إلى المناطق التي دخلها الجيش في غوطة دمشق الشرقية، فيما فعّلت قيادة شرطة محافظة ريف دمشق الوحدات الشرطية في جسرين وعربين وحرستا.