اللاذقية | وسط انشغال أهالي اللاذقية في إقفال نفقات العيد والتحضير لبدء العودة إلى المدارس وإعداد مؤن الشتاء، بما يثقل كاهلهم بالمصاريف، لم ينصرفوا عن متابعة تجهيزات الجيش، الذي يستعد لما هو أكثر خطورة من الشؤون اليومية. سيارات متلاحقة تعبر شوارع المدينة مع آخر أيام عطلة العيد، باتجاه ريف المدينة. أعداد هائلة من الآليات تصل إلى المنطقة، بما يوحي أن جميع الجبهات قد تفتح دفعة واحدة على جحيم ما يسمّى «معركة الشمال». حنين خفي لدى الأهالي والعسكريين في آن، إلى عبور حدود الجارة إدلب، واستعادة علاقات لطالما تكثّفت في موسم الخريف، مع مواسم الزيت والزيتون وبقية منتجات أرضها الخيّرة. يتابع الناس بعيونهم تحركات الجيش وحشوده العسكرية، التي وعلى رغم كثافتها، لم تزعج جموع المصطافين الهاربين إلى برودة الجبال، هرباً من رطوبة المدينة. كثرة تحليلات الأهالي وهواجسهم حيال فرضيات متعلقة بأي خطر قد يتهدد مدينة اللاذقية، بالتزامن مع ضربات الجيش شرقاً، يلقى اهتماماً في أوساط العسكريين. فالأخطار التي قد تهدد المدنيين تترك أثراً شعبياً أشد وقعاً من ضربات تهدد الوحدات العسكرية المتأهّبة على خطوط التماس. مع تقابل عيون المقاتلين والمصطافين في مشهد جدليّ، يستحيل الأمان المطبق على المكان إلى مسؤولية إضافية وضرورة ملحّة للقيام بحسابات مضاعفة، لدى العسكريين. ويتناقل المقاتلون أخبار التحضيرات، بأن كل شيء مختلف هذه المرة، من إدارة العمليات وإشراف على القوى البرية المشاركة، ووصول نخب قوات الاقتحام، إضافة إلى كثافة أعداد الآليات المتناسبة مع طبيعة الأرض الجبلية الوعرة. يستذكر العسكريون معارك كسب أقصى الريف الشمالي، قبل أعوام. خسائر بشرية كبيرة دفعها الجيش السوري وحلفاؤه على مدار معارك السنوات الماضية.
لا يضع العسكريون في حساباتهم «التفاهمات السياسية»

انسحاب من تلال مترامية على مد النظر، وعمليات قنص خطرة، وكمائن محكمة، وغير ذلك من الذكريات المؤلمة عن صعوبة تمركز القوات في نقاط محررة حديثاً. مصدر ميداني يلفت إلى ضرورات الاستفادة من أخطاء الماضي هذه المرة، وسط ما يشي بمعرفة المسلحين خصوصية هذه المعركة. وليس الأمر مجرد تحليل حيال معركة الوجود الأخير، بالنسبة لمسلحي إدلب، بل إن سعيهم إلى تركيز ضرباتهم، وقدرتها في إصابة بعض الأهداف في محيط الجبهات الحالية، يوحي باهتمامهم إرسال رسائل عن معرفتهم كل شيء من حولهم. وفي شكل مكشوف، يواصل المسلحون حشودهم في كباني، آخر نقاطهم في جبال اللاذقية، كمن يستعد لكثافة النيران الهائلة المتوقعة، ويتحضر للرد عليها. حالة من الثقة تسود أوساط المقاتلين بأن النتيجة محسومة، على رغم الخسائر المتوقعة وصعوبة الاقتحام والتحرك ضمن الطبيعة الجبلية، وعلى رغم التلويح بضربة عسكرية أميركية محتملة، لا يعطي العسكريون بالاً للأمر، بل إنهم لا يضعون في حسبانهم إمكان حصول تفاهمات سياسية تخفف وقع المعركة المقبلة أو تؤجلها أو حتى تلغيها. يعلّق أحد العسكريين على الأمر: «في الميدان لا حسابات لأي تفاهمات متوقعة. الاستعداد لأصعب الظروف هو ما يسود الواقع العسكري الحالي». قوات متنوعة من السوريين وحلفائهم، وسط تخطيط «غير مسبوق» للمعركة التي يأمل اللاذقيون بأنها «الأخيرة»، مع صلوات أن تمر بأقل الخسائر الممكنة في بلاد أنهكتها المعارك.
أين ذهب الفقراء؟
على وقع التحضيرات للمعركة المقبلة ودّعت اللاذقية ضيوفها المصطافين خلال عطلة العيد. ازدحام خانق أعاد إلى الذاكرة ماضي المدينة السياحية الحافلة بالغرباء صيفاً، والمنكفئة إلى أهلها شتاءً. ومع التكتم على استعدادات الجيش لخوض معركته الجديدة، لم تغب أحاديث السياسات عن طاولات المطاعم والمنتزهات، في غمرة انشغال أهالي المدينة بشؤونهم الاقتصادية خلال العيد. أفواجاً أفواجاً، تقاطر الزوار إلى أحد المطاعم المواجهة للبحر في منطقة الكورنيش الجنوبي. الجميع يريد موقعاً مطلاً على البحر، فيما لم تستطع مطاعم الواجهات البحرية استيعاب الأعداد الكبيرة من الوافدين، وهو ما يمكن التقاطه من أحاديث عابرة بين النادل والزوار القادمين. فرصة كبيرة للتحكم بالناس وممارسة القليل من السلطة، التي يهابها أهالي البلاد، ولا يوفرون جهداً للاستمتاع بها، كل بحسب موقعه ومهنته. وعلى رغم إلغاء حجوزات العديد من القادمين من دمشق، وسط هواجس بدء الساحل السوري العمل بنظام «البطاقة الذكية»، ما أفضى إلى حالة من القلق جعلت أعداداً من العائلات الميسورة تستعيض عن قضاء الإجازة محلياً بالسفر إلى بيروت القريبة، إلا أن الازدحام الهائل والمبالغ المدفوعة، أوحت بأن فقراء البلاد قلّة. علب التبغ الأجنبي تسيّدت الطاولات، وسط بذخ في اللباس والطعام، إضافة إلى بطاقات مرتفعة الثمن لحضور حفلات فنانين لبنانيين ومحليين.
يضاف إلى ذلك، تصريح رسمي عن وصول قيمة الأضاحي في سوريا هذا العيد إلى 9 مليارات ليرة. رقم غريب دفع بالبعض أن يتندّر بالحديث عن حق الحكومة بفرض الضرائب وإثقال كاهل المواطنين المقتدرين مادياً. صور عامرة بالحياة والسياحة واحتفالات العيد، لعلّ الغائبين عنها هم الفقراء الذين يتحدث الجميع باسمهم، من غير أن يراهم أحد ضمن أفراح العيد وأنشطته المكلفة، فيما غص الكورنيش الجنوبي والشواطئ العامة القليلة الباقية بعائلات لم يهتم بنيل رضاهم أحد.