قبل أيام، وصلت إلى مكاتب النخبة السياسية والأمنية في تل أبيب، عبر البريد الأمني، وثيقة رسمية صادرة عن قسم الأبحاث في «شعبة الاستخبارات العسكرية» في الجيش (أمان)، تضمّنت تحذيراً عاجلاً من «تدهور الوضع الاستراتيجي» للكيان. لم ينقص عديد الجيش الإسرائيلي، ولم تتراجع تكنولوجيته وتقنيّته الهائلة، ولا فرغت مخازن ذخائره أو أكل ما فيها الصدأ، ولا أصاب خللٌ تقني منظومة «القبّة الحديدية» لديه، والتي ارتفع الطلب عليها بشكل هائل بعد الحرب الأوكرانية. «التدهور» في مكان آخر تماماً، وتحديداً في ما تُسمّى «البيئة الاستراتيجية» للكيان، والتي تأثّرت بالعديد من العوامل الداخلية الذاتية، والخارجية الإقليمية، والخارجية الدولية. إذ بعدما اشتعلت كلّ أضواء التحذير على المستوى الخارجي، استفحلت الأزمة السياسية داخل إسرائيل، وتسرّبت إلى قلب المؤسسة الأمنية، من رأسها وزير الأمن، ونزولاً نحو قيادة الجيش والأجهزة الأمنية الأخرى، وصولاً إلى المستوى التشغيلي، حيث ضربت «جيش الاحتياطيين»، وهؤلاء عمود أساسي في خيمة «أمن إسرائيل»، كما تسرّبت - ولو بالنزر القليل - إلى الجنود النظاميين، ما أنذر بأعلى مستوى من المخاطر.
إيران تقود «الحملة»
منتصف الشهر الماضي تقريباً، انفجرت عبوّة ناسفة عند مفترق بلدة مجدّو في شمال فلسطين. مرّت أيام، هاجت وماجت فيها إسرائيل، حتى اضطرّت المؤسسة الأمنية إلى كسر حظر النشر الذي فرضته، وراحت تسرّب بعض تفاصيل «الحدث الأمني الكبير». لكن إلى الآن، ومع اقتراب مرور شهر على الواقعة، لم تكشف بعد الأجهزة الأمنية عن حقيقتها تماماً، سواءً لناحية كيفية تسلّل منفّذها، وما إن كان تلقّى أيّ مساعدة من داخل الأراضي المحتلة، ومن يقف خلفه بالضبط؟... إلخ. إلّا أن السؤال الأكبر على طاولة القيادة الإسرائيلية يظلّ: كيف يكون الردّ على عملية مجدّو، بلحاظ الفرص والمخاطر، والظروف المحيطة؟ لا يُعتقد أن اغتيال المقاوم في «الجهاد الإسلامي»، علي رمزي الأسود، في سوريا بعد أيام قليلة من الحادثة، أغلق معه حسابها، بل ربّما يكون الاغتيال دفعة على الحساب، وردّاً فورياً يهدف إلى توجيه رسائل حاسمة حول استعداد العدو لتفعيل سياسة الاغتيالات خارج فلسطين.
في اليوم الثاني من الشهر الجاري، أعلن العدو إسقاط مسيّرة عبرت الحدود من سوريا باتجاه أجواء فلسطين المحتلة. تمكّنت الطائرة من اختراق الحدود، والوصول إلى فوق بحيرة طبريا في الشمال الفلسطيني، على رغم الاستنفار العالي لدى العدو، وتحديداً تجاه سوريا، وفي ظلّ مناورة لسلاح الجو في المنطقة الشمالية في الوقت نفسه. عقب الحدث، بقيت طائرات العدو الحربية والاستطلاعية والمروحية، تحلّق في أجواء المنطقة الحدودية مع لبنان وسوريا، من دون توقّف، نحو يوم كامل. وبعد يوم واحد، أعلن العدو إسقاط مسيّرة كانت تحلّق في أجواء قطاع غزة، خوفاً من تجاوزها الحدود، وإمكانية أن تكون مفخّخة. لكن الطائرات الحربية ووجهت بعدد من صواريخ الدفاع الجوي، المحمولة على الأكتاف، لتضطرّ إلى الارتفاع والمناورة خوفاً من الصواريخ. لاحقاً، أكّدت تقارير إعلامية إسرائيلية، نقلاً عن مصادر أمنية، أن «حماس» أعدّت ما يشبه «الكمين» لطائرات العدو، واستدرجتها إليه.
بدا للعدو أن لا مفرّ من التصعيد في وجه «محور المقاومة» المتوثّب


قبل كلّ ذلك وخلاله وبعده، لم تتوقّف عمليات مجموعات المقاومة داخل الأراضي المحتلة، والتي يعتقد العدو أن تشغيلها في غالبه يتمّ من قطاع غزة، وأن تمويلها يأتي من إيران. وإذ يبدو هذا المسار متطوّراً ومتسارعاً؛ إذ بحسب رئيس «الشاباك»، رونين بار، جرى منذ بداية العام حتى يوم أمس، «إحباط أكثر من 200 عملية، وتكبّدنا 15 قتيلاً (إسرائيلياً)» - وهذه أرقام لا تشبه سوى أرقام الانتفاضة الثانية -، فإن العدو يرى أن كلّ ما يجري على المستوى الأمني، مسؤولة عنه قوى «محور المقاومة»، بقيادة طهران. وهذا ما صرّح به رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، أمس، عندما اعتبر أن «إيران مسؤولة عن 95% من التهديدات الأمنية التي تواجه إسرائيل». والنتيجة هي: أعداء إسرائيل متوثّبون، ويلمسون ضعف الموقف الإسرائيلي.

علامات «تدهور الوضع الاستراتيجي»
جرت هذه التطوّرات الأمنية، على وقع تغيّرات عميقة، بعضها سريع وآخر يسير ببطء، في البيئة الاستراتيجية للكيان. بداية، يتأكّد للجميع، يوماً بعد يوم، تراجع الحضور الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، لمصلحة الحرب الدائرة في أوكرانيا، والتوتّرات الكبيرة في آسيا، حيث التأزّم يزداد مع الصين وكوريا الشمالية. ولعلّ من أوضح المؤشّرات إلى ذلك، سحب الأميركيين طائراتهم المتطوّرة من المنطقة، وتحديداً من دول الخليج، ونقلها إلى أوروبا واستبدال طائرات أقدم وأقلّ كفاءة بها. ويُضاف إلى ما تَقدّم، التوتّر المتزايد بين واشنطن وتل أبيب، والذي يثير قلقاً كبيراً لدى دول المنطقة التي طبّعت مع إسرائيل، أو تلك التي تمتلك نوعاً من العلاقات معها، على اعتبار أن دافعها الرئيس إلى ذلك كان التقرّب إلى الولايات المتحدة من خلالها. إلّا أن ما يحدث اليوم، هو توجّه تلك الدول نحو التقرّب من إيران، والبحث عن تسويات «محلّية» على مستوى الإقليم، مثلما حدث في اتفاق استئناف العلاقات بين إيران والسعودية، ثمّ بين الأولى والبحرين ومصر، ثمّ تعيين سفير إيراني في أبو ظبي أمس، للمرة الأولى منذ 8 سنوات، في وقت يستقبل الرئيس السوري، بشار الأسد، المسؤولين العرب ويزورهم، ويتلقّى دعوة للعودة إلى «جامعة الدول العربية»، بينما هو يحتفظ بعلاقات ممتازة مع إيران، ولا يزال يرى العدو في قيادته حلقة أساسية من حلقات «محور المقاومة».
وفوق كلّ ما سبق، لم تنفع النداءات الإسرائيلية المتتالية، إلى دول الغرب والولايات المتحدة، لإظهار خيارات «خشنة» في التعامل مع البرنامج النووي الإيراني، بل آخر ما حصلت عليه إسرائيل في هذا السياق، هو رسالة من الإدارة الأميركية إلى الحكومة الإسرائيلية، تُعلم فيها الأولى الأخيرة دراستها عقد اتفاق «جزئي» مع إيران، حول أجزاء من مشروعها النووي، وأن طهران لم توافق بعد على ذلك العرض. أمّا أخطر ما في المشهد، فهو الأزمة السياسية المستفحلة داخل الكيان، والتي وصلت إلى ذروتها مع إقالة وزير الأمن، يوآف غالانت، من منصبه، ثمّ العودة عن الإقالة بسبب «الأوضاع الأمنية».

سوريا: الساحة الممكنة
أمام كلّ ما تَقدّم، بدا للعدو أن لا مفرّ من التصعيد في وجه «محور المقاومة» المتوثّب، بهدف إيصال رسائل قوة وردع، وحصد مكاسب تكتيكية، فيما لم يجد أمامه لإيصال هذه الرسائل سوى الساحة السورية، حيث تفلّت العدو منذ مدّة طويلة من أي قواعد اشتباك حازمة، سوى تلك المتعلّقة بـ«حزب الله» وأفراده. وعلى هذا الأساس، شنّ، خلال أسبوع، ما يشبه الحملة الجوّية على مواقع ومرافق عسكرية ومدنية، يزعم أنها تخصّ قوى في «المحور»، أو الجيش السوري، ما أدّى إلى سقوط عدد من الشهداء، بينهم إيرانيان. لكن مستوىً جديداً من التحدّي فرضته الطائرة المسيرّة الأخيرة التي دخلت من سوريا إلى فلسطين المحتلة، حيث تثبّت العدو أكثر من أن قيادة «محور المقاومة» غير مردوعة، وأنها تنوي تعديل ميزان الردع في سوريا، ضمن سياق تصاعدي أكبر تنخرط فيه كلّ قوى «المحور».