في ذروة التصعيد السياسي عام 2019، لم تنقطع خطوط التواصل بين دمشق وواشنطن، والتي كانت تمرّ في معظمها عبر المدير العام للأمن العام اللبناني سابقاً، عباس إبراهيم، وأثمرت، في بعض محطّاتها، الإفراج عن الأميركي المحتجز في سوريا، سام غودوين، في ما عُدّ آنذاك بادرة حسن نيّة من الحكومة السورية. اليوم، يعود الحديث عن الحوار السوري - الأميركي إلى الواجهة، ولكن هذه المرّة عبر وسيطَين رئيسَين مغايرَين: الأوّل، سلطنة عمان التي مرّرت رسائل بين البلدين خلال الأشهر الماضية؛ والثاني، «المبادرة العربية» بقيادة السعودية، والتي بدأ القيّمون عليها، منذ أشهر، محاولة لتقريب وجهات النظر بين الإدارة الأميركية والحكومة السورية. وفي هذا السياق، أجرى ديبلوماسيون ورجال استخبارات عرب، أخيراً، عدّة لقاءات في واشنطن، مع مسؤولين في الإدارة الأميركية والكونغرس ومجلس النواب، تناولت الملفّ السوري، في محاولة حشد تأييد للتقارب العربي مع دمشق، ودفع واشنطن إلى تقبّل الحوار مع الحكومة السورية. ويؤكّد ديبلوماسيون من 3 دول خليجية، في أحاديث إلى «الأخبار»، وقوع تلك اللقاءات، موضحين أيضاً أن الدور الذي قام به وزراء خارجية العراق ولبنان والأردن، في مؤتمر بروكسل للمانحين والذي عُقد أخيراً برعاية الاتحاد الأوروبي، كان منسّقاً مع «المبادرة العربية»، مبيّناً أن هؤلاء طرحوا ضرورة التواصل مع دمشق، بما يعبّر عن روح المسار العربي الذي يتمّ العمل عليه في واشنطن بالتوازي.
على أن الأولويات، من وراء عمليات التواصل هذه، تبدو متفاوتة؛ إذ تضع دمشق على رأس اهتماماتها مسألة رفع العقوبات التي اشتدّ خناقها كثيراً في السنوات الأخيرة، إلى جانب خروج القوات الأميركية من الأراضي السورية، بينما تصبّ الإدارة الأميركية تركيزها حالياً على ملفّ المفقودين الأميركيين في سوريا. وفي هذا الإطار، يرى الباحث الأميركي المتخصّص بمنطقة الشرق الأوسط، سام هيلر، في حديث إلى «الأخبار»، أن إدارة جو بايدن لا تريد حالياً التوسّع في الحوار مع دمشق إلى أبعد من ملف المفقودين، وأبرزهم أوستن تايس، الجندي السابق في مشاة البحرية الأميركية، الذي دخل إلى سوريا بصفة صحافي قبل أن يختفي أثره هناك. ومع ذلك، يتوقّع هيلر أن تؤدّي معالجة الملفّ المذكور إلى نقل الحوار نحو ملفات أخرى، كالعقوبات والوجود الأميركي في سوريا، مستدركاً بأن مسار الحوار السوري - الأميركي «طويل جداً»، وأن البلدَين «بعيدان جداً عن بعضهما البعض»، مضيفاً إن «أيّ تقدم في المدى المنظور ربّما قد يكون لناحية كشف مصير المفقودين وتخفيف القيود الأميركية وزيادة دعم مشاريع التعافي المبكر».
تضع دمشق على رأس اهتماماتها مسألة رفع العقوبات التي اشتدّ خناقها كثيراً في السنوات الأخيرة


وبخصوص «المبادرة العربية»، يرى هيلر أن «من شأنها أن تحقّق بعض التغيير في سياسة الإدارة الأميركية تجاه سوريا، وخصوصاً في الملفّ الإنساني، في حال عملت على التأثير على مختلف القوى في أميركا وليس فقط على إدارة بايدن»، مضيفاً إن «الدول الخليجية يمكنها اتّخاذ هذه الخطوة، كونها تمتلك قدرة تأثير جيدة في مراكز القوى داخل أميركا، وصوتها مسموع لدى بعض الأطراف داخل الإدارة وفي الكونغرس ومجلس النواب». ويستدرك بأن «هذا لا يعني أن بإمكانها خلق تواصل مباشر بين دمشق وواشنطن، لكن ربما مثلاً يمكنها تعطيل تمرير قانون منع التطبيع مع دمشق الذي يعمل عليه بعض الأعضاء في الكونغرس بالتعاون مع قوى سورية معارضة»، والذي لا تريده إدارة بايدن، وترى أنه يقيّد حركتها واستقلاليتها السياسية والديبلوماسية في التعامل مع الملف السوري.
وكانت دمشق قد قبلت على مضض، في عام 2019، الحوار مع واشنطن عبر وسيط، بعدما دأبت على المطالبة بأن يكون علنياً وألّا يقتصر على أجهزة الاستخبارات. وفي هذا السياق، يقول ديبلوماسي سوري سابق يقطن في نيويورك، في حديث إلى «الأخبار»، إن إدارة دونالد ترامب سعت، آنذاك، إلى تواصل غير مباشر مع سوريا عبر لبنان، وهو ما قبلته الحكومة السورية، التي أرادت، حينها، بحسب الديبلوماسي، القيام بمبادرة حسن نوايا تجاه الولايات المتحدة، ما أفضى في نهاية الأمر إلى الإفراج عن غودوين، الذي كان محتجزاً في سوريا لقرابة شهرين. إلّا أنه بدلاً من استقبال هذه المبادرة، أميركياً، بشكل إيجابي، شدّدت واشنطن الحصار والعقوبات عبر إقرارها قانون «قيصر» في العام نفسه، وإطلاق وزارة الخزانة الأميركية جملة تحذيرات من التعامل مع سوريا عبر «مكتب مراقبة الأصول الأجنبية».
وبحسب مصادر «الأخبار» في دمشق، فإن آخر حوار سوري - أميركي رسمي ومباشر، تَمثّل في محادثات بين فيصل المقداد، نائب وزير الخارجية آنذاك، وويليام بيرنز، نائب وزير الخارجية الأميركية. وتُضاف إلى تلك المحادثات، الحوارات التي تولّاها المنسق الأميركي الخاص بـ«مكافحة الإرهاب»، دانيال بنجامين، الذي تردد إلى دمشق عدّة مرات قبل عام 2011، وحافظ على تواصل بعدها، جزءٌ كبير منه استخباري، وتناول بشكل أساسي طلب مساعدة سوريا في الحد من تدفق المقاتلين إلى العراق لمحاربة الاحتلال الأميركي، بينما تمثّلت المطالب السورية، آنذاك، في إزالة دمشق من لائحة العقوبات الأميركية.