أعاد التدهور المعيشي والاقتصادي الذي تشهده سوريا أخيراً، على خلفية رفع الدعم الحكومي عن المحروقات وغيرها من المواد المدعومة، حديث المحليات إلى الواجهة، من زاوية مسؤوليات الإدارات المحلية تجاه المواطنين وأدوارها في تحسين الواقع الخدمي. وبينما تريد الحكومة للمجالس المحلية أن تحمل جزءاً من المهمات عنها، عبر السعي لتوفير الموارد الذاتية اللازمة لعملها والتقليل من اعتمادها مالياً على المركز قدر الإمكان، ضمن مساعي معالجة الخلل الإداري المتمثل بالمركزية الشديدة، تفتقر هذه المجالس إلى الاستقلالية والتمثيل الفعلي المطلوبَين لتحقيق هكذا وضعية.وتأتي تلك المحاولات الحكومية بعد أقل من عام على إجراء انتخابات للإدارة المحلية، غابت عنها التنافسية وشهِدت تدنياً في عدد المرشحين، وفوز عشرات المجالس بالتزكية، وسيطرة حزب «البعث» على 70% من أعضائها، وما أعقب ذلك من قرارات متضمنة حلّ مجالس منتخبة، وتشكيل أخرى بقرار من وزير الإدارة المحلية، من دون انتخابات أو إقالة أو استبدال عضوية. ولاقت هذه القرارات اعتراضات، من مثل ما حصل في بلدة دوير رسلان في طرطوس، في تموز الماضي، عندما أصدر وزير الإدارة المحلية، حسين مخلوف، قراراً بحلّ المجلس البلدي وتعيين 5 أعضاء مؤقتين، بناءً على اقتراح محافظ طرطوس، عبد الحليم عوض خليل، الذي اعترض على اتخاذ المجلس البلدي قراراً ضمن صلاحياته يقضي بإعفاء مختار من مهامه، وعدم استشارته في ذلك. وأتت خطوة التعيين بعدما ألغيت نتائج الانتخابات من قبل المحكمة الإدارية في طرطوس، في قرار أيدته أيضاً المحكمة الإدارية العليا «نتيجة ثبوت مخالفات وحالات خلل عديدة»، بحسبها.
وتعكس هذه الحادثة العلاقة الشائكة بين السلطات المركزية والمجالس المحلية، حيث تطغى سلطة المحافظة والوزير غير المنتخبين على سلطة المجلس المنتخَب، والذي يمكن للأولَين إقالته وتعيين مجلس آخر بدلاً منه من دون انتخابات، وهو ما يعدّ مخالفة للمرسوم التشريعي «107» لعام 2011، والذي ينص على أن أعضاء المجالس البلدية يحصلون على مناصبهم بالانتخاب وليس بالتعيين. هكذا، تغدو هذه المجالس محدودة الهوامش، عاجزة عن تطبيق قانون الإدارة المحلية وممارسة صلاحياتها بحرية من دون الرجوع إلى قوى مختلفة، من بينها المحافظ والفروع الحزبية التي يتبع لها أعضاء المجالس الفائزين ضمن قائمة الوحدة الوطنية. كذلك، تفتقد المجالس إلى الحامل المجتمعي القوي، بالنظر إلى أن طريقة وصولها بالانتخابات جاءت من دون تنافسية. وفي السياق، يرى خبير إدارة محلية، تحدّث إلى «الأخبار» مفضلاً عدم الكشف عن اسمه، أن «غياب الحاضنة الشعبية للمجالس والعلاقة الجيدة بين الأعضاء والمجتمعات المعنية أحد أبرز نقاط ضعف الإدارات المحلية في سوريا»، مشدداً على أنه «قبل المضي بمشروع إصلاح الإدارة المحلية يجب إجراء انتخابات مبكرة تقوم على التنافسية، يحدّد فيها المرشحون والتحالفات مشاريعهم بشكل مسبق ويحظون بأصوات الناخبين على أساسها». وبدءاً من هذه الخطوة «يمكن الحديث عن تطوير الإدارة المحلية والتعامل مع القوى والعوامل المعطلة لتطبيق القانون 107 المعني بالانتقال نحو اللامركزية الإدارية»، بحسب الخبير.

الوزارة مقتنعة بضعف المجالس: الحل بالتدريب!
لا تختلف وزارة الإدارة المحلية مع الرأي القائل بضعف خبرة أعضاء المجالس المحلية ومحدودية دورهم، لكنها ترى الحل بالتدريب وبناء القدرات. ولذلك، أطلقت مشروعها لتمكين كوادر تلك المجالس من أداء مهام فنية ومالية وقانونية، علماً أن أغلب هؤلاء لم يطّلعوا حتى على قانون الإدارة المحلية، ولم يتعرفوا على صلاحياتهم بموجبه. وفي السياق، يرى مصدر في الوزارة، تحدث إلى «الأخبار»، أن الهدف النهائي من مشروع التمكين هو أن تستطيع الوحدات تنمية إيراداتها المالية وتحسين أدائها لمهامها ضمن اختصاصاتها.
إلا أن المشروع يمضي بخطى بطيئة، وحتى الآن لم يحقق إنجازات تذكر سوى في القنيطرة وحماة، فيما قد يستغرق استكمال تدريب قرابة 15 ألف عضو مجلس محلي في سوريا، وقتاً طويلاً حتى عام 2026، وهو موعد الانتخابات القادمة.

حوار المحليات برعاية «البعث» والمحافظين
كانت الحكومة السورية أطلقت حواراً حول الإدارة المحلية، يقول الوزير مخلوف إن الهدف منه «إجابة عن سؤال أين نحن من تحقيق المأمول من تطبيق قانون الإدارة المحلية وما هي الهواجس أو العوائق التي لم نتمكن من إزالتها». وبالفعل، أجريت حوارات في ريف دمشق وفي حمص، يقول أحد المشاركين فيها لـ«الأخبار» إنها غير منتجة، معلّلاً ذلك بأنها «أقيمت برعاية المحافظ وأمين فرع حزب البعث، ما جعل الحوارات تحت سقفهما، وهذا يظهر بالتوصيات التي لم يأتِ أي منها على ذكر سلطة المحافظين على المجالس ومصادرتها لمبدأ اللامركزية ولا تدخلات الحزب بعمل الأعضاء». وإذ يدعو المشارك إلى أن تكون الحوارات «تحت إشراف مجلس المحافظة وأن تُدعى إليها قوى مختلفة تعبّر عن آراء متنوعة وتضمّ ممثلين عن المجتمع المدني السوري، وخصوصاً الذين ينشطون في مجال الحوكمة واللامركزية»، يشدّد على ضرورة أن «يغيب عن هذه الحوارات المحافظون وممثلو حزب البعث».

غياب البعد السياسي
علاوةً على ذلك، فإن محاولات إصلاح الإدارة المحلية تفتقد إلى البعد السياسي وترتكز على الجوانب الخدمية والمالية، وهذا يضعف المشروع لناحية إغفاله قضايا مهمة أبرزها تمثيل المجتمعات في المجالس المحلية، وخصوصاً في المناطق الخارجة من الصراع أخيراً، بالإضافة إلى هوية الدولة وانتقالها من مرحلة المركزية الشديدة إلى مرحلة اللامركزية الإدارية، وخصوصاً أن هذه الأخيرة مطروحة على الطاولة السياسية كأحد المخارج للأزمة السورية الراهنة، ولطالما تمّ الحديث بها في الحوارات بين دمشق و«الإدارة الذاتية» شمال شرق سوريا، ومع المبعوث الأممي إلى سوريا، فضلاً عن كونها جزءاً من الملفات التي يتم نقاشها مع المبادرة العربية.
يتطلّب تحويل المجالس المحلية إلى بنى قادرة على إدارة نفسها وتأمين مواردها إعطاؤها بعداً سياسياً


في كلّ الأحوال، يتطلّب تحوّل المجالس المحلية إلى بنى قادرة على إدارة نفسها وتأمين مواردها، إعطاء بعد سياسي لها ولطريقة وصولها، وتأمين حوامل مجتمعية لعملها ولأعضائها، وضمان تمثيل المجتمعات والفئات المختلفة والتنافسية والمشاركة الفاعلة والمتساوية للأحزاب، إلى جانب الشفافية والأدوار الفاعلة للإعلام، وليس فقط إيقاف التدخلات المركزية، وتحويل سلطة المحافظ إلى «إشرافية» ربما تتركز في الجانب الأمني، ونقل باقي صلاحياته إلى رئيس مجلس المحافظة ليكون رئيس المكتب التنفيذي.