في تناغم مع الموقف الأميركي، تجاهل المبعوث الأممي إلى سوريا، غير بيدرسن، الرفض السوري والروسي لاستمرار اعتماد جنيف مقرّاً لعقد اجتماعات «اللجنة الدستورية» المجمّدة منذ حزيران عام 2022، على خلفية تخلّي سويسرا عن حياديّتها وانضمامها إلى الدول التي فرضت عقوبات على روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا. وكان بيدرسن قد وجّه، الأسبوع الماضي، دعوات إلى الأطراف المشاركة لعقد الجولة التاسعة نهاية شهر نيسان المقبل، وهو ما سارعت واشنطن إلى إعلان دعمه. وجاء موقف المبعوث الأممي بعدما أعلن سابقاً عن وجود خيارات أخرى تجري دراستها لاختيار مقرّ جديد للاجتماعات، يحظى بقبول جميع الأطراف، قبل أن تتدخّل الولايات المتحدة لفرض استمرار اعتماد جنيف مقرّاً لـ«الدستورية»، في محاولة ربما لإحراج كلّ من دمشق وموسكو، وتصويرهما على أنهما السبب في تعثّر المسار الأممي للحلّ في سوريا. والجدير ذكره، هنا، أن واشنطن لا تخفي رغبتها في المحافظة على حالة الجمود القائمة في الملف السوري بما يخدم مصالحها في المنطقة، سواء عبر وجودها المباشر في المناطق النفطية السورية، أو عبر دعم الأكراد في «الإدارة الذاتية»، واستثمار هذا الدعم في الضغط على تركيا عند الحاجة؛ أو بشكل غير مباشر من طريق سلسلة العقوبات الطويلة، والتي وصلت إلى حدّ تمرير مجلس النواب مشروع قانون يحظر إقامة علاقات مع سوريا، ويبحث في إمكانية معاقبة الدول التي طبّعت مع الأخيرة بالفعل، علماً أن المشروع المذكور لا يزال يحتاج إلى إقراره في مجلس الشيوخ قبل إحالته إلى الرئيس لتوقيعه.وفيما فشلت كل مبادرات المبعوث الأممي في تحقيق أيّ خرق حقيقي، بدءاً من مبادرته «خطوة مقابل خطوة»، يزور بيدرسن سوريا، منتصف الشهر الجاري، في محاولة لإقناع دمشق بعقد الجولة التاسعة من مسار «الدستورية» في جنيف، بعدما فشلت الاجتماعات الثمانية الماضية في الخروج بأيّ جديد، وتحوّلت إلى ساحة للمناكفة السياسية حاولت المعارضة المدعومة من الولايات المتحدة وتركيا وقطر استثمارها إعلامياً. وفي ردّ مباشر على إصرار بيدرسن على محاباة واشنطن، أعلن نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي فيرشينين، رفض بلاده هذه الخطوة، لافتاً، في تصريحات نقلتها وكالة «تاس» الروسية، إلى أن «موسكو لا يمكنها اعتبار جنيف منصة محايدة لعقد اجتماعات اللجنة الدستورية السورية»، مضيفاً أنه «ينبغي أن يستمر البحث عن مكان يحظى بموافقة الأطراف. نحن نتحدّث عن حوار بين الأطراف السورية، ونعمل على تسهيله، وننطلق من حقيقة أن الموقع يجب أن يتمتّع بصفة محايد، واليوم نعتبر أن مثل هذه المنصة غير موجودة في جنيف». من جهته، أكد المندوب السوري الدائم لدى الأمم المتحدة، قصيّ الضحاك، مواصلة بلاده «التعاون مع بيدرسن بصفته ميسّراً للعملية السياسية التي يملكها ويقودها السوريون بأنفسهم»، مشدداً على أن ذلك «يجب أن يتم من دون أيّ تدخل خارجي»، ومشيراً إلى أن دمشق «قدّمت مقترحاً بنّاءً لعقد الجولة التاسعة للجنة مناقشة الدستور، ونتطلّع إلى أن تتكلّل جهود المبعوث الأممي بالنجاح».
يزور بيدرسن سوريا، منتصف الشهر الجاري، لإقناعها بعقد الجولة التاسعة من مسار «الدستورية» في جنيف


وبالتوازي مع التصعيد الأميركي المستمر في سوريا وحولها، خرج الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، الذي عقد خلال الأسابيع القليلة الماضية صفقة مع واشنطن وافق بموجبها على انضمام السويد إلى «حلف شمال الأطلسي» في مقابل تمرير صفقة طائرات «إف-16» المجمّدة لتركيا، ليعلن العودة إلى نغمة «إقامة منطقة أمنية على الشريط الحدودي مع سوريا بعمق 40 كيلومتراً». وكرر الرئيس التركي، في تصريحات بعد اجتماع وزاري عقد في القصر الرئاسي، وعوده السابقة بإقامة «المنطقة الأمنية»، قائلاً: «لدينا استعدادات ستسبّب كوابيس جديدة لأولئك الذين يعتقدون أن بإمكانهم أن يجعلوا تركيا تركع من خلال إقامة إمارة إرهابية على طول حدودنا الجنوبية». وتعيد تصريحات إردوغان إلى الأذهان أخرى مماثلة كان قد أطلقها إبّان الانتحابات الرئاسية في أيار من العام الماضي، حين لعب الملف السوري دوراً بارزاً في هذا الاستحقاق، علماً أن «حزب العدالة والتنمية» يخوض هذه الأيام انتخابات بلدية يعتبرها حاسمة، وسط محاولة لاستعادة مدن كبرى (إسطنبول وأنقرة) خسرها خلال الانتخابات الماضية لمصلحة المعارضة.
وتأتي التصريحات التركية بعد أيام من إعلان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، تجميد المحادثات حول التطبيع بين دمشق وأنقرة، وتأكيده، في مؤتمر صحافي أعقب مشاركته في «منتدى أنطاليا الديبلوماسي»، أن خطوات من هذا النوع «باتت مستحيلة في ظلّ الظروف الحالية في قطاع غزة»، مجدداً اهتمام بلاده بـ«تعزيز تطبيع العلاقات بين تركيا وسوريا». وكانت المحاولات الروسية والإيرانية للتوسط بين دمشق وأنقرة، قد دخلت في نفق مظلم بفعل مراوغة الأخيرة المستمرة حول وجود قواتها غير الشرعية في سوريا، ودعمها للفصائل المسلحة، بما فيها «الجهادية»، وهي النقاط التي اعتبرتها دمشق أساسية في أيّ حوار مع تركيا، التي حاولت استثمار هذا التقارب للتخلّص من عبء اللاجئين السوريين، من دون التوافق على أيّ جدول زمني لخروج قواتها من الأراضي السورية.