«الإرهاق قوي، طغى عليّ، سأنام»- غي دو موباسان (بتصرف).
يمتد التعب أو الإرهاق أو العبء العقلي من مكان العمل إلى المنزل، من أوقات الفراغ إلى الانشغال. خلال رحلة اكتشاف «الأنا» والحلم المتزايد باستمرار من أجل التحرر والحرية، أصبحت حياتي أكثر صعوبة من أي وقت مضى، خاصة عندما أتذكر الضريبة المحتملة، ونقاط الضعف والألم، والتفاوت الكبير بين المُتخيل والواقع. هكذا توسع «التعب» وعدم الرضى، بصمت ينشر الإجهاد ويفسد اللحظات المبتذلة كما اللحظات الجدية. يفرض الألم نفسه في الفضاء العام للعمل، وفي الفضاء الخاص للعلاقات مع الأسرة والأحباء والأصدقاء وحتى في العلاقة مع الذات.
تكشف المصطلحات اللاتينية «fatigatio» أو «defatigatio» عن الأصل القديم جداً لكلمة «التعب». هذه التعبيرات تربط الأمس باليوم. إنها تتغير ظاهرياً مع الزمن، ولكن في المضمون، فإن التعب هو قلب الإنسان، هو الخراب الذي لا مفر منه، حدوده التي لا يمكن له أن يتجاوزها، مثل المرض أو الشيخوخة أو الموت تماماً. التعب رمز لهشاشتي، وقد يشير إلى عقبة مُشتركة بين الجميع حيث يصل العائق «الداخلي»، الآتي من حدود «الأنا»، مع العائق «الخارجي» الآتي بدوره، من العالم وقيوده ومعارضاته.


وجدت صدفة كتاب «تاريخ التعب: من العصور الوسطى إلى أيامنا»، لجورج فيغاريلو، مدير أبحاث مدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية في باريس. حشد فيغاريلو أشكال التعب عبر التاريخ. ففي العصور الوسطى، كان تعب الجُندي أمراً أساسياً، آنذاك، وفي حضارة يجسد فيها المقاتل القيمة الأولى كان التعب تكريماً والشكوى منه تعني احتقار الشاكي. كلّ شيء تغير في المجتمع الكلاسيكي حيث بدأ تقسيم العمل ونمو البيروقراطية يعطي للتعب أشكالاً أخرى. ومع حلول القرن التاسع عشر أصبح التعب يتمحور حول «العمال» عندما تم فرض الإنتاج الكثيف بكل نجاحاته وكذلك مخاطره. أما عالم اليوم ، فبات فيه التعب غير مرئي، باهت، إذ يحل العبء المعلوماتي مكان العبء المادي، وتخفي أجهزة الكمبيوتر والمكاتب وآلات التبريد انهيارنا كي لا نُلاحظ تمزقات الروح «الشخصية أو الجماعية»، والتي لا يمكن التنبؤ بها أحياناً، ذلك بعد رحلات طويلة من المعاناة المقنّعة.
عندما ذكرت مرة عبارة «أنني مُتعب» كان الجواب: «مِن ماذا؟ إن الجهد الذي تتكبده ذهنيّ! فأنت لا تحمل الصخور، ولا تصعد الجبال، ولا تُحارب من أجل غنيمة تؤمن حياتك!» كان من المُحبط أن ترى التقريظ وعدم مراعاة التدهور الفكري حال فقد الإنسان السيطرة على عقله، فيما يستمر الإنسان في العجرفة على آلام الآخرين. وتفاجأت بنصيحة قسطنطين «الأفريقي» وهو طبيب من القرن الحادي عشر، إذ يقول: «يجب أن تتجنب وترفض الأعباء الثقيلة، وتحذر لأن القلق المفرط يجفف أجسادنا، ويخرج طاقاتنا الحيوية، ويزيد اليأس في أجسادنا، ويهلك عقولنا، ويمتص مكونات عظامنا». صدقاً، فبعد تسعة قرون لا زلنا لم نخرج من خانة الاستهزاء بالتعب. لا يهتم الإنسان الحديث كنسخته القديمة بربط التعب بفقدان المزاج، ولكنه ينظر إليه على شاكلة العصور الوسطى، يبقى الجسد المتعب هو الجسد الجاف، المصاب بشكل مُباشر في ماديته، أن ينزف الجسد، أن يروا الجرح وهو يشعل الحُمى ويحرق العظام، هذه هي علامات الإنسان المتعب، الدم هو الحد الذي يبدأ الآخرون بالانتباه إلى ما تَشعر به.
في عالم التنوير، بدأ الطب يكتشف الأعصاب، وما قد يسببه التعب عليها، ليتم تفسير الأمراض العصبية بوصفها ضعفاً ناجماً عن التوترات المتكررة أو المستمرة. ولم يعد النقص مرتبطاً بفقدان الجوهر ولكن بنقص التحفيز. الأحاسيس الجديدة تفرض نفسها علينا، وهي أيضاً، تستهزئ بالشعور بالفراغ وغياب المحفّز. من هنا كان البحث عن المقوّيات، والمنشطات وليس مجرد تعويض للسوائل التي تخرج خلال العمل البدني المُضني، ليتحوّل معها الجسد لآلة احتراق داخلي، وفقاً للنموذج الميكانيكي (المُحبب غالباً للماركسيين والرأسماليين على السواء). أما المكسب والخسارة تُحدد بــ«نار النشاط» أو القوة الدافعة عبر الأذرع، والتي يمكن توفيرها عبر احتياطيات الطاقة، والسعي إلى الحصول على السعرات الحرارية، والقضاء على السميات والأضرار.
اليوم، ومع التطور التكنولوجي، والحياة الرقمية، يتم بناء تصور آخر للإنسان. رجال ونساء ديناميكيون، فاعلون، يُسيطر عليهم نظام مُراقبة عالي الجودة، بالإضافة إلى أفكار صارمة تدور حول التسامي الذاتي، أي التعالي على التعب وتجاوزه. من هنا وجب على للإنسان أن يقدم دائماً صفات استثنائية للإدراك الفكري والمقاومة الأخلاقية والمثابرة وحتى المقاومة الجسدية. إن الحركة السريعة لعالمنا لا تهتم بأدنى إجهاد، ما يعني أن التعب حالة موت استثنائية، يظل الفرد حياً ولكنه خارج عن مدار السرعة والإنتاجية. يعيدني هذا إلى ثلاثينيات القرن الماضي، حيث البلاشفة وأحلامهم عن إنسان قائم على السجلات، ومربوط براتب، ويملك مقاومة أسطورية للجُهد. كان السوفيات يرغبون في تطور عالمهم سريعاً، فخاضوا تجارب فعلية على مواطنيهم لإخراج أطنان من الفحم خلال ساعات معدودة، قاموا بإطلاق وصف «عمل مُميت لكنه مُبهج!» على تلك التجربة. ومن خلال هذا الفكر، رفض الماركسيون آنذاك طرح مسألة الإرهاق الصناعي من الناحية العلمية، وادعوا، أو ربما آمنوا، بقمع التعب نفسه.
من الصعب اليوم القول «أنا مُتعب»، والأصعب هو سؤال «لماذا مُتعب؟». هل السبب يقود إلى العمل الزائد، وانتشار البيئات التقنية في كل مكان، والإفراط في التسارع، وضغط الآلات المتجددة باستمرار، وحوسبة العالم، والموضة المعممة للحظية والترابط الفائق؟ لا إجابة واضحة، لكن المجتمعات المعاصرة تعرف كيف تتكيّف مع متطلباتها لإنشاء التصميم والسيولة لجرف المُتعبين بعيداً. إنه العلاج للسيطرة على الذوات البشرية، واختبار حدودها وإعادة اختراعها لتتكيف مع المطلوب في السوق. عندئذ يصبح التعب مستمراً، وطبيعياً، ومألوفاً، وغامضاً، ومُتلازماً في الحياة.
هناك القليل لقوله في تجربتي مع التعب، لكني مُتأكد أنه يسيطر على حياة معظمنا، فكما أشار إيمانويل ليفيناس: «الكسل، والتعب، قبل أن يكونا مضمونين للوعي، هما انتكاسات في وجه الوجود بشكل عام. التعب هو رفض مستحيل للضرورة المطلقة للوجود». وعلى الرغم من محاولات علم النفس المعاصر بتحويل التعب إلى الاعتياد، وربطه بالوجود أكثر من ذي قبل والنظر إليه باعتباره «اختباراً» دائماً ومتكرراً، سأقول: «أنا مُتعب، ولي حق في ذلك»!