«الزمن غير قابل لانعكاس الإنتاج هو بالدرجة الأولى مقياس السلع، ومن ثم فإن الزمن الذي يتم تأكيده رسمياً في كل أنحاء العالم على أنه الزمن العام للمجتمع، لا يشير إلا إلى المصالح المتخصصة التي تُشكله، وهو ليس سوى زمن خاص». غي ديبور، مجتمع الاستعراض.
يتم استهلاك الذكرى مباشرة بعد سردها. هكذا بتنا معروضين أمام زمن الماضي، بشيء أشبه بالسلع، نكرر الخطابات ونشاهد الصور ونستذكر آمالنا المجهضة، حتى بات يستهلكنا ما يعرف بالـ«الحنين الثوري». يستمر الاستهلاك ويتجدد كلما مرّ الزمن عليه. الأحلام أيضاً تتجدد وتستمر، تعيد وتجترّ نفسها حتى تصبح سلعةً. النوستالجيا رديفة الاستهلاك أحياناً. ربما يجري الاستهلاك بعد تغير زمن إنتاج السلعة، وقد يتغير الزمن حتى يتحول إلى زمن غير قابل للانعكاس: زمن معياره هو الإنتاج، زمناً يبدو عاماً ولكنه خاص، أي يخص جماعة معينة.
ما يحدث اليوم في عالمنا العربي في علاقته مع الربيع العربي والثورة هو زمن غير قابل للانعكاس لما تبعه. زمننا توقف تماماً عند شرارة لحظة معينة وهو يعيد إنتاجها كسلعة إنتاجها متكرر. زمننا يملك سلطة على الثورة، وعلى منتجيها، هو منفصل عن تاريخ الثورات ويُنمّط كل لحظة عامة في ثنايا لحظة خاصة. في علاقتنا مع الربيع العربي، يمكننا استخلاص أننا استوردنا «الثورة» من دون أن نكون آبهين بالعوامل المحيطة بها، الأمر الذي يفقد أهم ما يميز اللحظة التاريخية.


تُخلق الثورة من السأم واللاجدوى. لا جدوى الحياة نفسها. تعي الثورة نفسها عندما تدرك أنه هناك عطب ما في الروح، عطب جماعيّ، يمسّ جمعاً كبيراً. ورم سرطاني وجب استئصاله، فيما الثورة جرّاح ماهر يزيل هذا السرطان. لكن الجرّاح سيتوقف عن العمل في لحظةٍ ما. ستنتهي مهمته بعد العملية الجراحية ليتولى الجسد إنعاش نفسه مراهناً على التئام الجرح. إذا نجح رهانه، فمن الممكن أن يظهر بعدها عطب جديد، وسيحاول الجسد مجدداً محاولة خلق ثورة جديدة على نفسه باحثاً عن التئام جديد، وهذه العملية الطويلة زمنياً ومجهدة، ولن يكون هناك معنى لكلمات كالهزيمة والفوز لأن هذه العملية بلا زمن. هي عملية ذات سُلطة، سُلطة تخلق زمناً خاصاً بها. في عالمنا العربي توقف الربيع العربي وباتت عقاربه مُعطلة. زمننا يحن إلى لحظة ماضية، لحظة ماضية لا يلتفت إليها إلا القليلون من أجل نقدها، بينما يبحث الكثيرون فيها من أجل عيشها مرة أخرى. زمننا لا يحاول خلق ثورة، إنما يحنّ ثورياً، وهذا الحنين لا يفيد. زمننا يُعامل الثورة وكأنها سلعة، سلعة ستحنّ إليها بعد الانتهاء منها كما أنك لن تكف عن شرائها. زمننا الخاضع للرأسمالية هو، كما عرفه ديبور، زمن استعراضي، نعرض فيه الثورة ونستعرض بها. فزمننا يخلق ثورة من الجدوى وينظر إلى ثورة باحثاً عن الفائز والمنهزم. على هذا الأساس، يخلق زمننا تاريخاً خاصاً بثورات مُتخيلة، تاريخاً منفصلاً عن ماضيه، وهذا التاريخ لن يولّد سوى ثورات من «جسد غير معطوب»، أو بمعنى أدق ثورة خالية من ثوريتها.
لقد أصبح الربيع العربي يُعامل من جماهيره على أنه زمن خاص بهم وحدهم، زمن يجب أن يتوقف الجميع عنده. هكذا هي عقاربه: مُعطلة. توقف الزمن يخلق هنا، حنيناً مزمناً إلى أشكال قديمة من النضال، وأيضاً يجعل معنى الثورة مقروناً بالصوت العالي والهتاف فقط. إنه الإبقاء على شكل الثورة وغياب المضمون عنها. هكذا هي الحال: ثورة جماهيرها حاشدة، حاضرة دوماً لكن لأجل الهتاف فقط، وليس لما تعنيه الثورة من دلالةٍ كبرى، أي التغيير. وهذه ليست المشكلة وحدها. ليست المشكلة في الحنين وحده، بل في الوقوف عنده لتقييم الربيع العربي كله في كلمتَي: الهزيمة أو الانتصار. إن مصطلحَي الوقوف والثبات، ربما، يعتبرا نصراً إذا أقدم الثوار على نقد هذا الزمن بنقدٍ يخلو من الحنين. نقد منزوع عنه الحنين، يفصله عن زمنه الخاص ويحوله إلى زمن عام. نقد يجبر الثورة على أن تتصل بالتاريخ ولا يساهم بتسليع اللحظة الماضية. المثير في السرديات المُقدمة من قبل جماهير الربيع العربي هو أن جميعها تتشابه مع بعضها. كلها تقف عند نقطة معينة ولا تريد أن تصل إلى ما هو أبعد. جميعها تعكس زمناً خاصاً بها وحدها، زمناً يقبع في ماضٍ مفهومه عن الثورة يكمن في الخسارة أو الفوز. زمن يحمل دلالات مُسبقة عن ثورة لم تحدث بعد وللدلالات طابع رومانسي. لكن ما تنساه جماهير الربيع العربي أن الثورة حدثت فعلاً، وقد حدثت وغيرت فعلياً. وما تنساه هذه الجماهير، أن الثورة فعل تخلقه اللاجدوى، لكن هذا الفعل بمجرد أن يحدث، يخلق جدوى معينة. ربما تظهر هذه الجدوى وتسطع وربما لا. المهم أن ما ينقصنا ليس التحرك فقط من اللحظة الماضية، بل محاولة فهم تلك اللحظة، والتنقيب عن أسباب تعطل جدواها. إن الثورة التي حصلت ما زالت تحتاج إلى نقد، لا لكي تكتمل، بل لأن النقد هو كالثورة، متجدد دائماً. يبقى أن النقد الحقيقيّ لا يخلق زمناً خاصاً، به كما أنه لا يأتي برؤية مُسبقة. النقد يُغربل الدلالات التي تحملها اللغة في طياتها. نحتاج نقداً كالذي قدمه آلان باديو في كتابه «لغز مايو 68» وهو كتاب صغير لا يتجاوز المائة صفحة حيث عرّج الفيلسوف الفرنسي إلى حل لغز ثورات الزمن الحديث، مقدماً نقداً لازعاً للجماعة الذي انتمى بنفسه إليها، بأسلوب خالٍ من الرومانسية والحنين. هذا ما نحتاجه الآن لكي نخرج من «صنمية الثورة» المتأصلة في ذهننا وفي أدبيّاتنا. نحتاج نقداً ثورياً يهدف إلى فهم ومعرفة، إلى حركة جديدة، لا يبحث عمن فاز أو خسر، ولا عن رومانسية ثورية أو ثورة رومانسية، بل يبحث فقط عن زمن متصل بتاريخ ثوري، زمناً عاماً ربما يولّد حركة أو انتفاضة من قلب الجماعة التي ثارت في الماضي. تكمن أهمية ما عرّج إليه كل من باديو، ديبور، وسادي بلانت على سبيل المثال، أن نقدهم كان قادماً من زمن عام ولا تحتويه أيديولوجيا مُسبقة، بل يبحث عن إيجاد أيديولوجيا من داخل الحدث نفسه. وهذا ما نحتاجه الآن، ما نحتاجه فعلاً أن نفهم أن الثورة تأتي من اللاجدوى، فيما الجدوى منها هو الانقلاب على هذه اللاجدوى انقلاباً ساخطاً.