عملاق ذو بنية ضخمة غير متناسقة بلا أي سيمترية جمالية، مشوّهة تقسيماته، لديه حَوَل وحشي بعينيه، وله فمّ واسع كهوّةٍ تبرز أسنانه غير المنتظمة عبر ابتسامته المتّسعة. عملاق ذو خطوات بلهاء غبيّة، لا هي مشي ولا جري بل نوع جديد من الهرولة. فهو يطوّح ذراعيه إلى الأمام والخلف، يحطّم البيوت بكفّيه ويدوس على البشر عندما يسير بقدميه. يتبعه آلاف العمالقة بأطوال وأحجامٍ مختلفة، فهم يتشاركون الغباء نفسه. يستمر هجوم العمالقة المكوّن من قطيع مجنون، مسلوب العقل، في اغتيال القرية وأكل الحياة بها حتى يصل أحد هؤلاء العمالقة إلى منزل الطفل «إيرين» والذي يعني اسمه السلام. تمدّ يدها لتمسك بأمه ولتقربها إلى فمها، ثم تقضمها بأسنانها وتقسمها إلى نصفين مبتسمةً. تبتلعها. يصرخ «إيرين ييغر» صرخة غضبٍ ويحاول أن يقتصّ من العملاقة بلا حولٍ له ولا قوة؛ هو محمول من أحد سكان القرية في محاولة بائسة للهرب من هجوم العمالقة. يبكي «إيرين ييغر» ويبكي معه العالم. هذه قصة من عالم الأنمي، هي قصة مسلسل «هجوم العمالقة» والتي تدور أحداثها في عالم خيالي، حيث يعيش البشر داخل أراض محاطة بثلاثة أسوار ضخمة تحميهم من عمالقة يأكلون البشر. عقب عرض المسلسل قالوا: «يا له من أنمي! واو.. مخيف!.. كم هو مرعب! أوه.. قلبي الصغير لا يحتمل دموية مشاهد الرسوم المتحركة!»

لكن يا له من عالم ينتفض لرسوم الكارتون الخيالية ولا يحرك ساكناً لواقع مليء بالفجاجة يتجسّد في فلسطين، بل يصمت ويدير ظهره للإبادة الحاصلة من قبل العمالقة الأشرار الحقيقيين بحق الفلسطينيين. إما أن العالم يشاهد الآن كأي متفرجٍ سلبيّ مستمتعاً بما يحدث وكأنه يشاهد مسلسل أنمي مرعب يحث عنده الأدرينالين فيعطيه اللذة، إما أنه متواطئ لأنه ساديّ النزعة ينتشي إزاء وحشية ما يجري.
إنّ العالم كله مدان لما يحدث من إبادة جماعية وتطهير عرقي للشعب الفلسطيني في غزة. فإدانة العالم بين احتمالين كفكين واقع بينهما: إما أنه لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم كموتيفة القرود الثلاثة وإما أنه يستمتع مثل قرد هائج يقفز على الشجر بصخب ويثير الفوضى، لا يوجد احتمال ثالث. كيف للعالم الذي يرى كل تلك الدماء والحطام في غزة أن يبقى ساكناً؟ وكيف لا يسمع كل تلك الصرخات الذي يطلقها أطفال غزة تحت القصف. العالم لا يتكلم لأنه عملاقٌ ساديّ يستمتع بتعذيب الأطفال ويلتذ بأكلهم أحياءً. العالم برمته مذنباً.
إنّ وصف ما يحدث في قطاع غزة من مجازر متتالية ومستمرة بالإبادة الجماعية ليس ضرباً من الخيال أو المبالغة. إنّ الإبادة الجماعية واقعٌ معاش يشهد على حدوثها الجميع بالرغم من كل محاولات التعتيم والحجب المتعمّد حتى لا يُنقل لنا ما يحدث. إنه واقع ينطلق من سردية صهيونية مفادها أن لا حياة سوى لـ«شعب الله المختار» ومن لا ينتمي إلى هذا الشعب «المختار» فهو مجرد شيءٍ، جمادات ليس لها حياة، بالتالي، إنّ سرديّتهم السيكوباثية تقوم على التصور بأن الفلسطينيين هم مجرد أشياء مزعجة يجب الاستغناء عنها، وعليه، فهم لا يستحقون الحياة.
إنّ السردية العنصرية الصهيونية أساساً ليست بين ضدين متقابلين، لأنها لا تنطلق من ثنائية «أنا/ هو» بل تنطلق من منطلق «أنا/ هم». ذلك يعني أن سرديّتهم العنصرية موجهة تجاه الجميع، تجاه الشعوب بأسرها، تجاه كل من لا ينتمي إلى فكرهم ويشاركهم تصورهم حول العالم. ولكنها رغم وحشيتها تبقى سردية تقتضي السير على مراحل، فالمجازر التي تحدث في غزة الآن ليست سوى تكملة لمجازرٍ حصلت عام 1948 في قرى ومدن فلسطينية، وهي استمرار لما حدث في مصر ولبنان وسوريا وبكلّ ربوع فلسطين. إنّ المجازر الحاصلة اليوم ما هي سوى «الزمن» عند الإسرائيلي، إذ إن المجزرة هي تاريخه وحاضره ومستقبله، ما يعني أنه لن يتوقف عن ارتكابها في غزة إنما سيتجاوزها إلى كلّ شبر لتحقيق «الوعد المزعوم». فالمجزرة بما هي شأن خاص عند الإسرائيلي وليس عرضي طارئ، متأصلة بجوهره بل هي بحد ذاتها جوهره. هذا «الزمن» الإسرائيلي هو صيرورة إسرائيل نفسها، ولو كان عنوان سرديّته بسيطاً ساذجاً يجيء «بريئاً» على شاكلة: «هؤلاء الذين لا يستحقون الحياة يكرهوننا، وهم يرهبوننا...».
كان العالم متأثر بـ«هجوم العمالقة»، وبكى لأجله، لكنه الآن لا يتأثر بأشلاء الأطفال ولا يذرف دمعة واحدة لأجلهم، وإنه من الأجدى بنا أن نعود إلى «هجوم العمالقة» لنسأل: ما الذي دفع العملاقة المجنونة بابتسامتها المخيفة إلى أكل والدة «إيرين ييغر»؟ ليس الوعي بشخصها وإنجابها لبطل إلى العالم، إنما هي الرغبة الجامحة في التدمير والانقضاض التي تمتاز بها. إنّ المسألة ليست في إزاحة سكان غزة من مكان إلى آخر بل في إزاحتهم عن الحياة.
يؤكد القانون الفيزيائي الثالث للحركة من قوانين نيوتن أنّ لكل فعل ردة فعل مساوية له من حيث القوة ومضادة له في الاتجاه. وما دام الخلاف يتجاوز المسألة السياسية والتاريخية وهو صراع وجودي، فليس من مفرٍّ أن يقابل بنفس الصورة ويُعالج من نفس المنطلق وبنفس المنطق: إنّ ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.
إنّ عملية تحرير الأرض التي انطلقت أخيراً آخذةً عنوان «الطوفان الأقصى» هي المقابل الحيّ لعملية دكّ الأرض التي أطلقها «إيرين ييغر» بعمالقته الخاصة حماة أرضه ووطنه. هي رد فعل لاغتيال كل ما يمثل حياته وماضيه وتاريخه، حاضره ولحظاته، مستقبله وأحلامه. لقد قتل العمالقة الأشرار كل من يرتبط به «إيرين»: الأم، العائلة، الجيران، الأصدقاء، تهشيم البيوت ومحو الذكريات. إنّ عملية دكّ الأرض هي رد الفعل الفيزيائي لمجازر العملاق الصهيوني، مدمر البيوت والمخيمات، منتهك المساجد والكنائس، قاصف المدارس والمستشفيات. عملاق لا يتورّع عن قتل الأطفال في مدرسة أو في مستشفى المعمداني، ولا يمكن أن يكون الرد عليه سوى بعملية دك الأرض المنطلقة كالطوفان من الأقصى.
إن الجمهور نظر إلى «إيرين ييغر» بحساسية شديدة حينما شبّ عن الطوق وكبر مطالباً بحقه في الحياة. حينما أعلن دكّ الأرض ظهرت الإنسانية المفرطة، وحينما قاوم أهل غزة ما يحدث من انتهاكات على أرضهم، تحسّس العالم وأدار ظهره لهم مدعياً العمى والصمم والخرس.
إنّ عالم يقصف الأسر الآمنة في بيوتهم، ويستبيح كل المواثيق الإنسانية، ولا يتورّع عن قتل الأطفال المرضى في أسرّتهم، لا يكفيه صراخ: لا تأكلوا الأطفال!