«ربما أكتب تسعين مسرحية جيدة، ولكن كل هذا لا يعني شيئاً طالما لم أُخرج فيلماً رائعاً». بهذه الكلمات القليلة أجاب المخرج والكاتب المسرحي الإيرلندي الأصل مارتن ماكدونا عن سؤال طرحه عليه صحافي أراد فهم تحوّله من مخرجٍ وكاتبٍ مسرحيّ إلى سينمائي يُخرج ويكتب أفلامه. وبالهوس نفسه الذي تحدّث به ماكدونا عن نظرته للسينما فقد تحوّلت أفلامه الخمسة إلى محطات مميزة لسائر المدارس السينمائية في الوقت الحالي. فالمخرج الإيرلندي لا يُخرج فيلماً إلا ويسير على طريق الجوائز ويحظى بالتقدير والحفاوة النقدية والجماهيرية على حدّ سواء. بدءاً من فيلمه الأول Six Shooter» (2004)» عرف ماكدونا مهرجانات الاحتفاء والجوائز، إذ حاز فيلمه القصير على جائزة أفضل فيلم قصير لعام 2005، وعلى طول الخط الممتد من فيلمه الأول حتى فيلمه الأخير The Banshees of Inisherin» (2010)» والذي ترشّح لنيل تسع جوائز أوسكاريّة في العام السابق، فإنّ أفلام ماكدونا تشترك بموضوع واحد ألا وهو القتل. يبحث ماكدونا في أفلامه عن البراءة التي تدور على هامش عوالم الكبار السخيفة بدءاً من فيلمه الطويل الأول (2008) «In Bruges». الفيلم الهادئ والساحر الذي تدور أحداثه في المدينة البلجيكية الهادئة بروج، المدينة الكئيبة التي تشبه عمارتها المفرطة بالزخرفة القوطية. نتتبّع في «In Bruges» قصة «كين» و«راي» اللذين يعملان كقاتلَين متسلسلَين. يُكلّف «راي» بمهمة قتل أحد القساوسة في الكنيسة، بيد أنه ومن دون أن يدري يقتل طفلاً صغيراً كان يصلّي ويطلب من الله أمنيته التي كتبها على ورقة. انطلاقاً من هذا الحدث تنطلق المأساة بكوميديتها السوداء، نتابعها على مدار تسعين دقيقة، إذ يقضي «راي» بمساعدة «كين» الصديق والقاتل المُحنّك كبير السن وقتاً في «بروج» لكي ينسى جريمته المرتكبة، إذ يؤرّقه الشعور بالذنب جرّاءها. تبدو مفارقة القتل المُذهلة في هذا الفيلم حين يذهب «كين» لقتل «راي» فيجده يهمّ بالانتحار ليقوم بإنقاذه.

الصورة من مجلة Interview Magazine. تصوير جوهان ستاندبرغ

في فيلم «بروج» إنّ جرائم القتل شائعة، والمخدرات كذلك، والمعارك القتالية والنكات التي لا تلقي بالاً لصوابية سياسية طافحة. وبينما نشاهد هذه الديستوبية على الشاشة، سنجد أن الأطفال هم النموذج الأصلي للقداسة، ولهذا السبب تحديداً كان لا بدّ من قتل «راي» الذي كان رجلاً بروح طفل، والذي لم يستطع التعايش مع قتل طفل عن طريق الخطأ. تتحدد مسألة «قتل طفل» كخط أحمر وحيد في سينما ماكدونا التي تتحرك أبطاله حوله بحذر خشية أن يلمسوه. لقد رفض «كين» التخلص من «راي» الرجل ذو روح الطفل، وكان على استعداد أن يلاقي مصيره بالقتل من قبل رئيس العصابة الذي لا يظهر لنا، بل يبدو كأنه ظلٌّ لشرير يطارد الأحداث. على هذا النحو، يبدو «كين» وكأنه رجل نبيل تلزمه مجموعة من المبادئ، غير أنه يقتل في النهاية حين قتل «القزم» الذي ظنه طفلاً. في عالم ماكدونا يلعب الأطفال والمراهقون دور المرآة العاكسة لمساوئ عالم الكبار. ففي «جنيات إنشرين» حيث يدور الصراع حول نبوءة الموت المحققة لذاتها بين «باتريك» و«دوهرتي»، فإنّ النبوءة من الأساس كانت تسعى وراء روح المراهق «دومينيك» الذي مات ليترك مسرح الصراع السخيف لـ«باتريك» و«دوهرتي».
إنّ القصة في فيلم ماكدونا لا تدور كحدث منطقي بقدر ما تدور كحدث مستفز. يستفز ماكدونا أبطاله لإخراج جلّ ما يستطيعونه من أفعالٍ. تدلّ قصة الأم «ملدريد» في Three Billboards Outside Ebbing, Missouri» (2017)» على ذلك الاستفزاز، حين تتصدى وحدها لمكتب شرطة بأكمله لكي تنتقم لابنتها -المراهقة التي اغتصبت وقتلت. ورغم أن أفلام ماكدونا هي دراما جريمة، مشغولة بأسلوب واقعيّ لا يدّعي الفانتازيا إلا أنه يضع إطاراً ممكناً من السحرية لواقعيته تلك. فأسلوب ماكدونا استثنائي فريد يمكن عدّه بأنه «غريب الأطوار» إلى حدّ كبير. فهو لا ينهي أي حبكة على الورق، ودائماً ما يترك القصة تسترخي مع الشخصيات، أي إن الحركة تكمن في النص وتبقى النهايات بدون حلّ، ثم إن نهاية الفيلم تبيّن لنا أن دوافع البدايات قد تلاشت تماماً، ووُلدت شخصيات الفيلم من جديد. عند ماكدونا لا تنطلق القصة من خبر لجريمة في جريدة، أو مجلة بقدر ما تنبع من الإلهام الشخصي. خذ مثلاً فيلم «In Bruges» الذي كتبه ماكدونا بعد أن قضى أسبوعاً واحداً في بروج. حينها صادف أن تجاهلته الفتاة التي اتفق معها على أن يتقابلا في المدينة تلك ولكن ذلك لم يمنعه من أن يشعر بروح تلك المدينة، فكتب ما شعره تجاهها في ذلك الفيلم الذي يبدأ فيه الأبطال بالتساؤل في حوار قصير بينهم، وكأنه حوار قادم من ألسنة المتفرجين: «لماذا بروج؟». لم يكن يحتاج الفيلم لمدينة بروج من الأساس. كان بإمكان «كين» أن يُلقي بنفسه من برج أي كنيسة في لندن أو دبلن مثلاً!
في فيلم (2012) «Seven Psychopaths» كانت حياته الشخصية مصدر إلهامه وهذا واضحاً. هذا الفيلم يبدو مزعجاً ، لكن ستشاهده حتى النهاية وتستمتع به، كان ماكدونا يعاني من إدمان الكحول والمخدرات. كان غارقاً في الاكتئاب وراح يستمع إلى قصص سبعة مرضى نفسيين أثناء علاجه من الإدمان والكآبة، فقرر أن يكتب قصة لا يخشى أبطالها القتل بقدر ما يخشون ماضيهم. وفي قصة Three Billboards Outside Ebbing,» Missouri» (2017) (ثلاث مساحات إعلانية فارغة) فقد استلهم موضوعه من ثلاثة إعلانات مماثلة رآها ماكدونا في إحدى زياراته الولايات المتحدة، أي قبل إنتاجه للفيلم بعشرين عاماً، فقرر أن يكتب فيلماً متخيلاً: ماذا يمكن أن يملأ تلك المساحات الثلاث؟ فكان أن ملأها بإعلانات الأم التي تهاجم فيها الشرطة والحكومة المحلية التي تجاهلت حق ابنتها. وبينما كان ماكدونا يصور هذا الفيلم لم يكن لديه أي فكرةٍ واضحة حول النهاية، وهذا ما يبدو غريباً وجميلاً في حبكة الفيلم، إذ كلّما بلغت أطراف الصراع رشدها في النهاية، تبدأ في إعادة التفكير من جديد في دوافعها للانتقام؛ فنجد أن «ميلدريد» أدركت أنها آذت الجميع بسبب انتقامها ويدرك الضابط الفظ «ديكسون» أنّ مكامن الخير موجودة داخل نفسهِ.
ينسج ماكدونا عالمه الخاص الذي يبدو وكأنه يعبر أفلامه جميعها، من البداية حتى فيلمه الآخر. فالأقزام تحضر في فيلمين على الأقل، والأطفال يلعبون دوراً ثابتاً. ويبدو ماكدونا نرجسياً عبقرياً، يكتب الفيلم ويخرجه وينتجه ولو امتاز بموهبة التمثيل لكان أدى الأدوار برمتها. غير أن ماكدونا ينتقي الممثلين الذين يراهم انعكاساً لنفسه. هؤلاء الأشخاص الذين يوافقون على تصوير فيلمٍ لم ينجز نصفه الأخير حتى. لذلك نجد ممثلين كـ«سام روكويل» و«وودي هاريسون» وفي البداية «كولين فيرل» و«بريندن جليسون» يحضرون في سينما ماكدونا على الدوام. ومن يرى الممثلان الأخيران في فيلم «In Bruges» ويراهما في فيلمه الأخير «جنيات إينشرين» لا يستطيع أن يفكر سوى في «راي» و«كين» اللذين تنشطر صداقتهما حين يصل «كين» لعامه الثاني بعد الخمسين ويفقد الرغبة في الصداقة بين ليلة وضحاها.
تبدو قصة «جنيات إينشرين» مثالاً صادقاً لعالم الجنون المأساوي/ الكوميدي الأسود الذي ينسجه ماكدونا. يبدأ الفيلم بصديق لا يرغب في صديقه مرة أخرى، وتطور الأحداث يبدأ بعد تهديد الصديق لصديقه بأن يقطع إصبعاً من أصابعه كلما حاول الاقتراب منه مردداً أنه سيرميه عند بابه. ويأكل الحمار المُفضل للآخر أصابع صديقه ويموت، وتطور القصة لقصة ثأر شخصي بين اثنين لا يُلقيان بالاً بالقتل وإلحاق الأذى بمجتمعهما. وتبدو البراءة حاضرة للكشف عن النبل الكامن وراء هذا السخف فيما تعنيه أرواح الحيوانات في هذا الفيلم، فالكلب والحمار وعلاقة الأبطال بهما تبدو بمثابة أطفال آخرين في عالم ماكدونا.
يقول ماكدونا: «لا أحد من أبطالي سيئٌ، ربما كلهم أغبياء مثلي، لكنهم طيبون». في سينما ماكدونا ينحاز الكاتب إلى أبطاله، كلهم على حد سواء وكأنهم أطفاله. يظهر هذا جلياً في فيلمه الأشهر«Three Billboards Outside Ebbing, Missouri»، إذ يظهر المُشاهد التعاطف مع قصة الأم في تحقيق انتقامها، من دون أن يكره رجال الشرطة الذين يقفون عائقاً في طريقها بل ويصبحون ضحيتها في الكثير من اللحظات، فدائماً ما يُظهر ماكدونا أبطاله، والأشرار منهم، كشخصيات تتقبل مصيرها كالملائكة من دون اعتراض أو قنوط. ويبدو كل بطل من أبطاله مدركاً لعواقب أفعاله، فيحقق مراده ويجلس منتظراً الانتقام، أو الموت، أو يحقق ذاته بمشاهد انتحار.