«اكتبْ بدمك فتعلم حينئذ أنّ الدم روح» - نيتشه
في مسرحية «شي فاشل» (كتابة وإخراج زياد الرحباني) يسقط أبو الزلف (زياد أبو عبسي) فجأةً على خشبة المسرح. لم يكن أحدٌ يتوقّع أن يظهر «النموذج» التي تحاكيه مسرحية المخرج «أستاذ نور» بشحمه ودمه. حلّ أبو الزلف بدون سابق إنذار على مرمى الجميع، وكأنّه سقط للتوّ من مظلة هوائية وهبط إلى دياره؛ دياره التي سلبها منه مهرجون يصنعون من سيرته نسخاً ممجوجة مشوّهة تُناسب أحلامَهم الخضراء. اقتحم أبو الزلف الحيّز المسرحي واستبدل السلام، بما هو الثناء الحسَن والترحيب الدافئ، بخطابٍ هستيريّ استهله بالتالي: «هاي مان، أنا جايي من التراث خصوصاً لشوفك. (...) مستر نور، إنت بتعرفني شي؟ شايفني شي؟ إلك معي شي؟ على شو عم تعيطلي إلك عشرين سنة؟». من الواضح أنّ مزاج الزائر ليس سليماً. كأنّ المسألة بينه وبين «أستاذ النور» شخصية وبلغت أقصاها، وأنّ الكلام الذي يجب أن يُقال قد تخمّر، واستوى، وآن أوانه. فالنبرة المتوترة تُعرب، منذ البداية، عن نيّة أبو الزلف مساءلة المُنادي ومحاسبته.


بمونولوغ عصبيّ زاخر بسردية حداثوية على نقيض الصورة المكرورة عنه، أبدى أبو الزلف امتعاضه المهول من كيفية «تمثيله». بدا غير راضٍ على الإطلاق عن مفردات المسرحية، وشكل الحبكة، والغنائية المنشودة، أو لنقل من اللغة برمتها التي يشتغل فيها وعليها «أستاذ نور». فأبو الزلف «المثال»، الذي يعيد تمثيله الأخير سرداً وسيرةً وتمثيلاً، هو بطلٌ (كيانيّ) أصيل، وأصالته تُجيز التخلّص من كل لوثةٍ، ومن كل حدث طارئ، ومن كل «غريب»، ذلك أن بوسعه بسط سيطرته بالمطلق، والحفاظ على السيادة وعلى النقاوة وعلى الأصل. فإذا كانت «الجرّة» (التي ترمز إلى الأصالة اللبنانية) مهددة فقد منع أبو الزلف مداهمتها أو سرقتها، وإذا كان حاملها يمرّ بوقت شدائد فإنّ أبو الزلف أنقذه وأعاده إلى موضعه الثابت الصحيح.
لكن في سقوط أبو الزلف على المسرح، ومعه ظهوره الساخط، تكمن نقطة التحوّل؛ كنا أمام «مثال» الشخص فبتنا أمام الشخص بذاته. إثر السقوط ستتهاوى القدسية الثقيلة التي لطالما أحاطته، وسينخلع عنه ذاك الملمح «التراثيّ» الجامد الذي كرّسه شخصيةً رهيبةً. في سقوط أبو الزلف موتٌ لماضٍ وقيامة لأبو الزلف «الجديد». هذا «الجديد»، بما هو قيامة، يتجلّى ملياً في قتل أبو الزلف الـ«غريب» المتأصل فيه. سنجده، في هذه القيامة، يهشّم مثاليةً مبتذلةً أُلصقت به، داعياً بدلاً منها إلى مواقف شديدة الواقعية إلى حدّ النفور. يبقى أنّ قيامته تلك لا تقوم قبل نفضه غبار التأويلات عنه، وغسل اليدين من بلاهة التراث، ما يعني أنّ قيامته لا تكتمل قبل قتله تلك «الغرابة» التي دشّنته بطلاً منقذاً.
غير أن هذا «القتل» ليس قتلاً للبطولة بقدر ما هو، بحدّ ذاته، فعلاً بطولياً، لأنّه قبل كل شيء اجتثاث للخرافة التي أثخنته، ثم إفساحه المجال لتداعٍ حرٍّ يبوح صاحبه برغبته، ونقمته، وغضبه. القتل إذاً هو تقعيد لمفهوم البطولة، وتدعيمه بما يشترط عليه معناها الذي فُقدَ من الاجترار وكثرة الاستعمال. أبو الزلف الذي باغت الجميع بسقوطه يباغت الجميع مرةً أخرى، وهذه المرة بوصفه «غريباً»\ «جديداً» على ألفتهم: ذلك الذي يقود دراجة نارية من طراز «كوازاكي 906»، يستعمل مولينكس بدلاً من الجرن، وغير معجب بالاستعارات البائخة، المستمدّة من الريف وما تُفرزه طبيعة الكيان؛ تلك الاستعارات التي تقوم على الورود، والزهور والعنب، بل يفضّل استقاء المجاز من المتداول اليوميّ. «سمعت بالقنبلة العنقودية مان؟ (...) صرت بالـ1983 وبعدك بس تقول كلمة ليالي دغري بكروا وراها: لحالي، علالي، عبالي. ليه ما بتحط مثلاً ملالة؟ ما شفت إلا ملالات أنا وجايي لهون».
أبو الزلف محاصر بـ«مثالية» أطَّرته ببطولةٍ خارقة حتى صار رمزاً مستبدّاً. هو معاقبٌ جرّاء «صورته» التي أحالت العيش تحت سطوتها جحيماً. ولم ينجم عن المتمسك والمنادي بمثاليته إلا الوهن والتلكؤ والحروب الأهلية. ولأنه ليس غودو، فقد شعر بأنه حان الوقت لخرق حصاره، فالسقوط والظهور. نحن في عام 1983 وبيروت لم تتعافَ من حلم شارون المجهض بالتهامه سندويش شاورما في شارع الحمرا، وأبو الزلف «الجديد» جاء ليقول إنّ كل دعوة نوستالجية مهما تغلّفت بشعرية باذخة، وكل نزعة ماضوية تتغنّى بجمالية «الجرّة»، ليست إلا ارتكاساً، وهزائم مدوّية، يتناسلان من مثالية خادعةٍ، ما لبثت أن مهّدت الطريق أمام المحتل للاستيلاء على العاصمة. والحال، إنّ دعوة أبو الزلف «الجديد» إلى استعمال مفردة «ملالة» (دبابة) بدلاً عن «علالي» خروج من الجامد الخرافي إلى السائل التجريبي الحيّ. هي التخلي عن دلالات الإذعان والإجحاف والتقديس التي أورثت حاضراً لم يشفَ بعد من لوثة الهزيمة نحو بلاغة معاصرة احتجاجية رافضة، أي أنها مانيفستو حداثي للغة آناً، وتثوير للذات آناً آخر، وهما لا ينفصلان أصلاً.
في الثامن أو التاسع من أكتوبر الماضي، أي بعد يوم أو يومين من سقوط المقاومين بالمظلات الهوائية في مناطق داخل غلاف غزة، حينما أثبتت الشخصية الفلسطينية الثورية نفسها بأقصى درجة ممكنة، وبراديكاليةٍ تقع على تضاد من أبو الزلف «فتح»، وفولكلورية أوسلو، وكل ما يرافقهما من تراثيةٍ تفضي إلى شك الرأس بالأرض، على طريقة النعامة اليائسة من عجزها عن الطيران، ذاعت مكالمة هاتفية جرت بين مقاومٍ ووالدته حين خرق الأخير حصاره ودخل، مقتحماً، دياره المسلوبة. غاصّاً بصوته لدرجة الاختناق، حتى تكاد تخال أنه صوت النفس الأخير، يخبر المُتصل والدته بأنّه موجود في إحدى المستوطنات، وأن هدف اتصاله بها هو لإخبارها بذلك (النصر) قبل مباشرته الكفاح المسلح. تصغي والدته لما يقوله لها مذهولة. لا تصدّق ما تسمعه. يردد لها، مراراً، بأنّه موجود «هنا»، وهي، وعلى الرغم من مقاطعتها المستمرة له بسبب دهشتها مما يقوله، فإنّها كانت تسمعه بفرحٍ قادها إلى الانهمار بالبكاء. يُفقَد التواصل بينهما. نفقد التواصل معهما، لكننا نعلم التتمة: ستغرق الأم في حسرة موحشة، لأنّها في صميم اللحظة الكاشفة عما يعني المكوث «هناك». يحضر المشهد هذا بوصفه «مأساة إغريقية» كاملة. نتحدث عن تأويل نيتشوي، حيث المأساة الجارحة تمتزج بالفرح الفاتن، حيث اللامرئي، وفي الحالة هذي هو الصوت، الغارق في حمم المغامرة، يتمظهر في أسمى الأشكال؛ أبولون يصير مرآته. كلما شاهدت المقاطع المصورة المنشورة من قبل الإعلام العسكري للقسام، يحضرني وجه هذا المقاوم، ويستحيل عليّ أن أتخيّل وجهه المجهول، وجهه اللامرئي، ميتاً. ليس لأنّه غير قابلٍ للموت، أي أنه لا يموت، فهذا من طباع البطولة الواهية التي تُغري الهزائم، ومن سمات الجمود الخرافي الذي تمتاز به شخوص الهزيمة: أبو الزلف «المثال» مثالاً. لكن لأن 7 أكتوبر، هو، كما وصفناه أنا ورفاقي في إنّما: «فصلٌ من أسطورة»، وشتان بين الخرافة والأسطورة، وهي أسطورة لأننا أمام شخصيةٍ فجّرت شيئاً ما بداخلها، وأنّ شيئاً ما تفجّر بداخلها، قبل أن تقرّر تفجير تلك الدبابة الشامخة في الخارج. هكذا ارتأيت: أنّ تكون الصورة، وهي الفيديو، المرئيّ الذي يتجلّى فيه ذاك اللامرئي، ما يعني أنّ يكون المشهد الجليل أمامنا تجسيداً تامّاً لهيبة الصوت ورسالته.
إنّي أرى وجهه كلما شاهدت التالي:
الشمس مشعشعة تزيغ النظر، لكنه يتلطّى وراء الجدار. تتقدم الدبابة رويداً رويداً لكنه هادئ وراء الجدار. مدفع الدبابة حائر، أي بناية منها؟ لكنه يتساءل: سائق، مساعد سائق، هل من آخرين؟ تتحرّك الدبابة ببطء، لكنه هادئ يتربص وراء الجدار. تقترب الدبابة إلى الأمام فتحجب أشعةَ الشمس. هو في الزاوية المناسبة يتموضع، يترقب، ينتظر. تقترب الدبابة، نلمح يديَه الممسكتين بـ«ياسين 105»، وبطرفة عينٍ يطلق القذيفة فيصيب الدبابة ويحولها إلى جبل نار. ولأنّ التحول هذا أشبه بالأعجوبة، لربما سيعرض مشهد اشتعالها في موسم الرياض المقبل، وينسب إلى فيلم «Blow-up» للمخرج الإيطالي أنطونيوني، منعاً لخدش مشاعر إسرائيل.
أقول، هذا هو المقاوم الذي حدّث والدته على الهاتف كلما شاهدت التالي:
يدان تركضان بسرعةٍ كأنهما مفصولتان عن جسده. يدان تعرفان التراب جيداً. يدان تعرفان النار جيداً. يداه صلبتان لا ترتجفان، يدان لا تعرفان الاهتزاز البتة، يدان ستحوّلان بعد قليل الحديدَ إلى نار. أرى يديه، أراه في يديه: يد تشعل فتيلة المولوتوف، يد تضع المولوتوف على ظهر الدبابة بكل هدوء. يدان حوّلتا الدبابة إلى حطام.
في قراءته لسينما المخرج الفرنسي روبير بريسون يرصد جيل دولوز أهمية اليد في أفلام الأخير بوصفها وسيطاً يعيد ربط ما اقتُطع من قبل عنصرين: المساحة - الزمن. «وحدها اليد هي القادرة على خلق رابطة بين الجزء والجزء الآخر من المسافة» يقول دولوز. اليد إذاً تصنع المسافة، أي العلاقة بين قطعٍ غير متصلة بعضها ببعض وغير محددة سلفاً في إطار المساحة -الزمن، ما يعني أن اليد تعيد شبك ما يصبو إلى أن يكون متبعثراً، أو بعيداً، أو «هناك». يمكننا إضافة التالي على تأويل دولوز: إنّ اليد بصلتها مع ما كان غير مقبوض عليه تصبح امتداداً للرغبة. وأليس هذا ما تروم إليه يد ذلك المقاوم؟ أليس إعادة وصل الزمن الذي اقتطعته النكبة هي علّة وقد النار، وتفجير الدبابة؟ تصبح اليد امتداداً للرغبة إذاً، والرغبة هنا فائضة، وعمياء، لا تبصر سوى مشهد واحد لا تنفكّ عن ممارسته: إذا كانت الشمس بأشعتها تضيء درب الدبابة المقتحمة فإن اللون الفاقع جراء احتراق الدبابة يغدو بلاغاً تجريدياً مفاده: إما هواء وإما سأجعل النار تحرق العالم. على هذا النحو، تصبح النار مدلولاً للدبابة، لأنّ تثوير الواقع يعني انزياحه عن ثباته، وهو مقرون بتثوير العناصر الأدبية والرمزية أيضاً، وهكذا، تسقط دعوة أبو الزلف «الجديد» حول شعرية مرجوّة من فضاء المجاز («ليه ما بتحط (في القصيدة) ملالة؟») إلى ساحة الحرب، لتبني واقعاً (غارقاً بالشعر) جديداً مهّدت له النار.
مع الدبابة المتفجرة نحن مع قصيدة ناجزة موضوعها عالم يقوّض مساره ويرسم ملامحه من جديد. ينبش الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار في كتابه «شعرية النار» عن الصور المجازية التي أخذت من النار رمزاً لغوياً، وعن الأساطير المنطوية على دلالات البعث والموت بغية استيلادها، توليدها من جديد للحفاظ على ديمومة التجدد والعودة. ما يهمنا من بحثه هو إعادة قراءته لبروميثيوس، إله النار، وتركيزه عليه، وكأن في قراءته الجديدة لبروميثيوس إحياء جديداً له. فبروميثيوس الذي كان محبّاً للبشر سرق النار من جبل الأولمب سراً عن زيوس ووهبها لهم، حتى يستأنسوا بنورها ويتدفؤوا من لهيبها. يثني باشلار على عصيان برومثيوس وينوّه به «فالبطل برومثيوس هو رمز العصيان البنّاء، فلا بد من عصيان بنّاء للتفوق عليهم، فالعصيان من أجل الفعل هو شعار المبتكِر، فتاريخ البشر في تطوره هو سلسلة من الأحداث البروميثية». وبين العصيان البنّاء وبين المقاومة شعلة رفيعة سرعان ما تنطفئ، فالفعل المقاوم هو ضرب من ضروب البروميثية، ذلك أن المقاوم الذي يشعل الدبابة يعصي كل سلطة وكل مساحة وكل زمن. على أنّ عودة باشلار لبروميثيوش تدعونا إلى القيام بقراءة معاكسة، لأن البروميثية سائدة في غزة، وإننا شاهدون على نارها، لذلك فالانطلاق ينبثق منها نحو ما سبق أن جاء في الخيال والكتابة، لعلنا نعثر في تفتيشنا هذا عن «اليد» التي تربط فلسطينيّ السابع من أكتوبر وما تلاه، مع هوية بروميثية منشودة لم تحقق نفسها على أرض الواقع، بل كان السابع من أكتوبر صدى مناداة، والموعد المُبرَم مع النار التي كان التوق إليها شديداً.
في قصيدة «التغريبة الفلسطينية» للشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان نقرأ التالي:
«هو بالباب واقفُ\ والرّدى منه خائف\ فاهدأي يا عواصفُ\ خجلاً من جراءتِهْ\ صامتٌ لو تكلَّما\ لفظَ النارَ والدِّما». يصف طوقان في قصيدته شجاعة المناضل وهيبته، جرأته التي تهزم الشخص الذي يقف «خلف الباب»، ويشيد بهدوء المناضل أمام «العواصف» الهوجاء، وإذا ما أراد التكلم فبندقيته هي التي تتكلم. كتب طوقان هذه القصيدة منذ أكثر من أربعين عاماً، لكن المشهدية التي رسمها الشاعر تبدو، عقب قراءتنا لها اليوم، أقرب إلى الإنشائية من الشعرية، وهي أشبه ما تكون بتعليق صحافيٍّ، لأن مقاتلاً من القسام متوارياً خلف «الباب» انتظر قدوم «العاصفة» حتى يضرم النار، فتكون كلمته الأخيرة جعل عدوّه يلفظ آخر أنفاسه. لكن إذا عدنا إلى القصيدة وقرأناها بوصفها شعراً، كُتب منذ نصف قرن تقريباً، فإننا سنجد كلّ شروط جماليات الخراب منقوشة في شطورها.
في قصيدة أخرى عنوانها «النار ماء» للشاعر كمال خير بك، سنعثر على الدواء الذي يجب ارتشافه للتخلص من الداء: «للنار هذا العالم المريض\ للنار هذي الأوجه المهترئة\وهذه الضمادة التميمة\ للنار، للحضيض\ إلى متى تظل خلفها\ جراحنا القديمة\ فنادقاً وثيرة للأوبئة؟\ لقد خبرنا منذ أول العصور آية الشفاء\ لا طب، بعد الآن، لا مسيح\ كي نبرئ الجراح\ وكيما ننقذ الجريح: «الكي آخر الدواء»\ والنار ماء». لغة كمال خير بك، الذي ودّع الشعر في قصيدته «وداعاً أيها الشعر» قبل أن ينطلق إلى ميونخ ويقوم، مع باقي أصدقائه، بما قاموا به، حادّة كالنصل. نرى في قصيدته إفصاحاً صارخاً عن ضرورة حرق «الذات» القديمة، الملوثة والمريضة التي لا شفاء من وبائها. نحن أمام مناشدة طارئة تدعو إلى القضاء بأسرع ما يمكن («الكي آخر الدواء») على «ذات» مجروحةٍ جراء الهزيمة، وجرحها غائر، كلّما اتسع زاد صاحبه وهناً وأثبط التاريخ. إننا أمام نفي خالص لفكرة الخلاص الميتافيزيقي، ذاك الذي لا يحضر قبل مجيء المخلص (لا طب، بعد الآن، لا مسيح). آية الشفاء عند خير بك إذاً تمر بالنار، بحيث إنّ النار بما هي حرق لملامح وأثر الهزيمة تغدو طريقاً للشفاء.
مع إبراهيم طوقان نحن أمام واقع مشتعل تغذيه الثورة، وإرادة قوية يتحلّى بها الثائر\المناضل. سنرى هذا الواقع المتّقد في دبابات محطَّمة، فجرها مقاوم هادئ، استطاع السيطرة على نقطة عرق سالت من جبينه جراء أشعة الشمس دون أن يتسرع ويضغط على الزناد كما فعل ميرسو بطل رواية «الغريب». مع خير بك نحن مع إنسان يحول واقعه الدامي أمام قيامته المرجأة، فيلجأ إلى النار حتى تنبعث «ذاتاً» جديدة من الرماد. ومعه، نحن أقرب إلى أبو الزلف «الجديد» الذي قتل خرافته بنفسه حتى لا يسلبنا الغرب، ولكي لا تحتل العاصمة؛ إننا على تماس مع شخصية السابع من أكتوبر الفلسطينية، التي أحرقت كل مقررات المجالس وبنود الاتفاقيات التي سلبت الأرض وغرّبت الإنسان، وتركت لوحة عن المفتاح، وقماشة لحياكة الكوفية، وآلة عود تعزف ألحان الشجن والوجوم. ومهما يكن، ففي الحالتين نحن أمام تثوير للواقع وللغة - فهما كما ذكرنا آنفاً لا ينفصلان أصلاً - يشكلان ملحمة بروميثية، ينقل المقاوم - بالرغم من استياء زيوس منه أو أي ملكٍ آخر - الدبّابة من حالتها «البريّة» كأداة غزو إلى حالة استئناس ودفئ. وبما أننا أعدنا، على عكس عودة باشلار، الحدَث إلى اللغة، فلنبحث عما جاء في تعريف الدبابة. يأتي التعريف كما يلي: «الدبّابة: آلة حربية مصفحة مزوّدة بمدفع يكون بداخلها جندي، تهجم على صفوف العدو في قلب المعركة، تدور عجلاتها على سلاسل ملتحمة»، غير أنّ جنوداً مقاومين هجموا على الدبابة المصفحة، وفجّروا حصنها. أترى أن المعنى المعطى قاصر؟ وكأنّ حريق الدبّابة ليس من أهل اللغة، وليس بواردٍ، وأن تدميرها مستحيل، أو أنه تعريفٌ قد سقط سهواً، أو أنه كباقي القصائد يستحيل فهمها بالمعاجم.