تخيّل أناساً في كهف، لا يرون سوى الظلال على جداره الداخلي ولا يسمعون سوى رجع الصدى. لا تعكس الظلال الواقع كما هو، هذا ما تخبرنا إياه أسطورة الكهف عند أفلاطون. فإن اتكأت على ما تشاهده عبرها، تظن أن الطفل مارد، والنحيف مفتول العضلات، تظن سكين المطبخ سيفاً مسلولاً، ورخامته منصة مقصلة. تظن الإصبع بندقية، والحجارة صواريخ. الظل هو الواقع المزيف، هو الواقع مع تحريفه، وإن استطعت إدارة رأسك تجد الحقيقة مختلفة تماماً عن ظلها، تجد أنّ البرج الشاهق ما هو سوى انعكاس لمغارة.

الكهف هو مغارة، بيت منقور في الجبل أو الصّخر أو كالغار في الجبل إلا أنه واسع. تعد المغارة من أبرز الرموز الميلادية، والإنجيليّ الوحيد الذي ذكر مكان ميلاد السيد المسيح هو القديس لوقا، لكنه لم يذكر المغارة بل المذود، أما المغارة كما نعرفها اليوم، فيعود الفضل في إطلاقها إلى القديس فرنسيس الأسيزي الذي قام بتجسيد أول مغارة حية في ميلاد عام 1223، وانتشرت بعدها عادةً إقامة المغاور الرمزية في الكنائس وخارجها. والهدف من المغارة ليس الزينة فقط، إنما اجتماع العائلة حولها للصلاة، والانسجام مع مظاهر الزهد والتنسك.
دأب رؤوس الرأسمالية في العالم على إغداق الظلال، على تغذية الأوهام بالصور الموحية عبر احتراف التسليع، تسليع كل شيء. ويساعدهم في ذلك الأشداق المرخية، التي تُبدي الانبهار الدائم، والجري وراء آخر إصدار. وبات الدّين كذلك سلعة، يغلّفون به الصراعات، تُغسل العقول ويتّسع المكان للأفكار الوافدة، لتجلس وراء المقود وتتحكم بتصرفات الأفراد. باتت المجتمعات أشبه بسفن مكتظة تطفو على سطح المحيط، تحركها الأمواج كيفما شاءت، ويتهاوى بين الفينة والأخرى ثلة في أعماقه، ليلتهمهم حوت الدّين. السلعنة، وهي تحويل كل قيمة معنوية إلى سلعة مادية، تدخل ميدان العرض والطلب، يرتبط «البرند» بقيمة معنوية، بمشاعر، فحين تقتني منتجاً كأنك تقتني المشاعر المرتبطة به لتجد الشجاعة والمغامرة. الصدق والحب على رفوف السوبر ماركت وحتى «الخلق» الذي تتذرع بغيابه عنك كي لا تقصد الدكان، بات يباع في عبوات، وثمة عبوات أخرى يباع فيها هواء البلد في بلاد الاغتراب، عبوات فارغة، تشي بالفراغ الذي يملأ الأرجاء. تلعب الشركات هذه اللعبة، عبر الدعاية والإعلان، وعبر رعاية محافل رياضية وفنية. وفيما يتعلق بالدِّين، يصير شراؤك منتجاً دينيَّ الطابع، بمثابة تعزيز لإيمانك، حسنة تقفز إلى ميزان حسناتك. وعادةً من يقتني القرآن الكريم أو الإنجيل المقدس المشغول على غلافه بزركشة فريدة مستعد لدفع ثمنه باهظاً، لأنه يشتريه لتزيين صالون البيت، أو المكتب، ويُكلّف من يمسح عنه الغبار كل مدة، أما من لا يصب اهتمامه على الغلاف فهو غالباً الذي يقرأ فيه، ويعمل بتعاليمه. القانون كذلك بات سلعة، يحق لواضعه اختراقه، ويحق له تحديد من يمكن له أن يخرقه غيره، فصاحب المحل التجاري، وواضع قانونه، تجده يضع ورقة فوق مكتبه مكتوب عليها «ممنوع التدخين»، وهو على مكتبه يدخن السيجارة تلو الأخرى، ويسمح لمن يجالسه من رفاقه التدخين، ويمنع الزبائن، وكذا القوانين الدولية.
العالم بات مفتوحاً، أُفرغ الكهف، خرج منه السجناء، وخرجت الظلال لتتجسد واقعاً. فالسجناء شعروا بالغربة خارج الكهف، وأرادوا استحضاره بجعل العالم كهفاً. الأبراج الشاهقة لم تعد ظلّاً للمغارة، بل واقعاً، وإن كان الهدف من المغارة الاجتماع حولها للاتصال بالسماء عبر الصلاة، فالأبراج تتنافس على الاتصال بالسماء فعلاً، اتصالاً ماديّاً هدفه ملامستها، وربما إحداث ثقب بين عالمين، والتلصّص منه على العالم الآخر، بغية تسليعه بصناعة منتج الآخرة، وبيعه في مزاد علني.
إن كانت بيت لحم هي المحج، ولا سيّما في عيد الميلاد، فالاستعمار بأذرعه العسكرية والناعمة أشاح الوجه عنها، وبات المحج هو «المولات»، حيث التغول بالاستهلاك، حيث التسوق والبذخ، حيث سانتا كلوز موظف لدى محلات الألعاب، موظف ديليفري بلباس موسمي موحد، وذقن وقهقهة، وكرش إن لم يكن موجوداً عنده، يُلجأ إلى غيره، أو يوضع له كرش وهمي، يُخلع بعد انتهاء المهمة، كل ذلك يبدأ بدفع بابا العائلة ثمن الهدايا وثمن توصيلها.
إنها ثنائية المعنى والمبنى، إذ إن الانصراف إلى المبنى وإهمال المعنى، يُنتج ظاهراً جذاباً، ولكنه أجوف، ينهار بضربة حجر، يتهاوى، والكريسماس مع كل ما يحمله من بهرجة، من دون عيد الميلاد، أي من دون معنى العيد، يكون فارغاً، يكون ظلّاً، يكون برجاً شاهقاً (وقد يتخذ شكل شجرة)، يكاد يلامس السماء، ولكنه يفتقد إلى حقيقة المغارة.