Strong>فُقِد الخبز. الدواء أيضاً. البرد قارس ولا تدفئة. تلتصق الأجساد والأنفاس. تبحث عن لحظة أمان متخيلة. لكن الجوع يطحن الأمعاء. لا بد من الخروج والبحث عن أرغفة. هذا طمع. لا بأس برغيف أو اثنين لعائلة كبيرةلم يبقَ رغيفٌ في منزلهم المتواضع. خرج خالد الكحلوت مع أبنائه الثلاثة لإحضار الخبز، والانتظار طويلاً في لائحة الجياع التي تتكرر يومياً. ساعة، اثنتان... مرّ وقت طويل ولم يعودوا.
وكان النبأ. لن يرجع الوالد وأبناؤه إلى المنزل أبداً، بعدما مزق صاروخ إسرائيلي أجسادهم، فيما أضيف اليُتمُ إلى لائحة أوصاف الحزن، التي تعيشها الزوجة منال وبناتها الثلاث.
منال الكحلوت (32 عاماً)، هي إحدى عشرات الفلسطينيات في قطاع غزة، اللواتي تحوّلن إلى أرامل بقدرة صاروخ. لم تتمالك أعصابها وحزنها. أخذت تصرخ ودموعها تغمر وجهها: «لماذا تركني؟ استشهد زوجي وأبنائي الثلاثة ولم يبق رجل للبيت. ماذا سأفعل يا رب ببناتي الثلاث؟ من سيعتني بنا؟».
تابعت منال، وهي ترتجف، «ذهب بسيارته مع محمد وحبيب وتوفيق ليحضر لنا خبزاً. لكنهم عادوا إليّ أشلاء والخبز مغطى بدمائهم. بأي ذنب قتلوا، هل حرم علينا الطعام أيضاً؟». وتساءلت «ما ذنب بناتي ليتربّين من دون أب أو أخ؟ لم يحملن صواريخ أو سلاحاً، ما ذنبهنّ؟».
تسكت قليلاً قبل أن تجيب نفسها «هربنا من القصف حول بيتنا في منطقة الشيخ زايد وجئنا إلى هنا، فأودى بهم القصف الجوي جميعاً مرة واحدة. لا يوجد أمان في أي مكان».
لم تتمكن المعزيات في المنزل من تهدئة منال. «الصدمة أكبر من أن يحتملها بشر»، قالت أم محمد، إحدى قريبات منال.
وتكرّ السبحة، نداء حمودة (20 عاماً)، لم تتوقع أن تفقد زوجها واثنين من إخوتها في يوم واحد. حتى الواقع يصعب تصديقه في الغالب.
قالت «صعقت بخبر استشهادهم. فقدنا أربعة من العائلة في يوم واحد. استشهد زوجي أحمد وابن عمه ناصر وشقيقاي محمد ومنير». أضافت «أوصاني زوجي قبل أن يستشهد بيومين، برعاية ولدينا عدنان وأمين، وأمه. كأنه كان يتوقع الشهادة».
ولم تكن زكيّة المدهون (60 عاماً) أوفر حظاً. فقدت هي الأخرى زوجها وابنها، ولم يبق لها من عزاء سوى الصراخ. «قالوا لي زوجك وابنك استشهدا والله يرحمهما، كما استشهد اثنان من أبنائي قبلهما. ما نفع العمر من دون زوجي وأبنائي؟».
وتشرح «استشهد زوجي وابني زياد في القصف على مدرسة الفاخورة حين كانا يمرّان بقربها. أصابتهما الشظايا وفصلت الجزء العلوي من جسد زوجي عن باقي جسده، فيما أصابت أخرى زياد حبيبي في رقبته».
وحاولت زكية مواساة نفسها بالقول: «زوجي وأبنائي الثلاثة شهداء، والله لن يتركنا وأبنائي الثلاثة الباقين». إلا أن إنعام، خالة الشهداء، لم تستطع تقبل الصدمة، وأخذت تردد «الله ينتقم من إسرائيل ومن يناصرها. أذاقهم الله من نفس الكأس التي يسقوننا منها، يا ربّ يتّم أبناءهم كما يتمت أبناءنا».
وجلست ريهام زوجة الشهيد زياد بين المعزيات، وهي تحضن أبناءها الثلاثة، أريج وهاني وشهد، ولم يبق لها إلّا البكاء. شهداء وتشوّهات وأرامل ويتامى وخوف.
ظلامٌ يسكن في العيون، ويرعبها حين تضاف إليه القذائف الماطرة. إنها ليال من الرعب. يقطن مصطفى وأسرته في حي تل الهوا جنوب غرب مدينة غزة، الذي لم يعرف سكانه طعماً للنوم طوال ساعات ليل أمس، الأعنف منذ بدء الحرب. جمع مصطفى زوجته وأبناءه الستة في غرفة واحدة، إضافة إلى شقيقته وأبنائها الثلاثة، اعتقاداً منه بأنها الأكثر أمناً لكونها لا تطل على الشارع الرئيسي. قال «كانت حقاً ليلة مرعبة. صوت المدفعية وصواريخ الطائرات لم تتوقف. سقطت بضع قذائف بين الأبراج وأثارت رعباً بين الأطفال والنساء».
زوجة مصطفى وشقيقته مكثتا تصلّيان طوال الليل وتدعوان الله أن «تمر الليلة على خير». قالت الأولى «كلما انطلقت قذيفة يتملكني خوف شديد من أن تسقط في شقتي، وتودي بنا جميعاً». وأضافت «ما في حدا آمن في غزة. شظايا قذيفة أصابت شقة جارنا أبو محمود في التوغل قبل يومين، لكن عناية الله حفظت 15 شخصاً في الشقة».
وأما جميلة، تلك الفتاة التي أطلّت على شاشة «الجزيرة»، وتحدثت عن معاناتها، وبتر ساقيها، فقد ناشدت وزراء الصحة العرب، «تقديم المساعدة للفلسطينيين في قطاع غزة»، خلال اجتماعهم في الرياض لمناقشة الوضع الصحي في غزة.
جميلة لم تقل الكثير. لكن طفولتها ستذكر التاريخ دوماً بمسؤوليته تجاهها.
(الأخبار، رويترز، أ ف ب)