من بين الملفّات الأبرز التي سيواجه الرئيس الأميركي المقبل صعوبة في معالجتها، هو الملفّ الاقتصادي. والموضوع هنا لا يتعلّق بالركود ونظام الرعاية الصحيّة (مثلاً) المحليّين فقط، بل بالجانب الاقتصادي من العولمة، التي أظهرت أنّ «عدم التقنين» ليس مذهباً فعّالاً لـ«إدارتها»!
حسن شقراني
مثلما تنتظر البورصات نتيجة الانتخابات الرئاسيّة الأكثر تشويقاً في الولايات المتّحدة، ينتظر العالم يوم 15 من الشهر الجاري، الذي يشهد انطلاق سلسلة قمم دوليّة دعت إليها أوروبا، وتحديداً الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، من أجل محاولة إجراء تعديلات على النظام المالي العالمي الذي أدّى السوء في «إدارته الأميركيّة» إلى خلل أصابه، وتحوّل انهياراً منذ إفلاس المصرف الأميركي «LEHMAN BROTHERS».
وبحسب افتتاحيّة صحيفة «نيويورك تايمز» منذ يومين فإنّ الرئيس الأميركي الحالي، جورج بوش، سيكون البطّة الأكثر عرجاً في القمّة التي يحتضنها مبنى المتحف التاريحي الأميركي في واشنطن. والسبب في ذلك هو أنّ مكانة الرئيس الجمهوري العمليّة والاعتباريّة لم تعد لها الهيبة المفترضة بسبب فشله في ملفّات كثيرة في السياسة والاقتصاد. كذلك فهو لن يكون حاضراً في البيت الأبيض ليشهد حتّى على أوّل مفاعيل الإجراءات التي يمكن أن تتخذ في قمّة الدول العشرين الكبرى.
لذا سيُعوّل على الرئيس الأميركي المقبل أن يقود تطبيق المقرّرات العالميّة (إذا اعتمدت أيّة مقرّرات) التي تهدف من ورائها أوروبا إلى تعديل النظام العالمي وإخضاعه لصيغة أكثر تطوّراً من تلك التي أرسيت في «بريتون وودز» قبل أكثر من 60 عاماً. ومن هنا تبرز ضرورة أن يكون للرئيس المقبل نظرة كونيّة لكيفيّة إدارة الجانب الاقتصادي للعولمة، وخصوصاً بعدما تبيّن من الأزمة الحاليّة أنّ لا أحد بمنأى عن تداعيات أزمة بحجم تلك التي أطلقها سوق الرهون العقاريّة في الولايات المتّحدة.
من جهة أخرى، فإنّ الرئيس المقبل، عليه أن يجاري الهشاشة التي تحكم بورصة «وول ستريت» ونظيراتها في العالم. فحتّى بعد اتخاذ الحكومات عبر العالم تدابير إنقاذيّة بلغت قيمتها 3.3 تريلونات دولار (تتضمّن ضخّ سيولة والمشاركة في رساميل المصارف من خلال تأميمات جزئيّة)، ظلّت الأسواق الماليّة هشّة، متخوّفة من الركود. وحتّى يوم أمس، سارت تلك الأسواق في منحى تصاعدي إلّا أنّ المستثمرين فيها كانوا يترقّبون نتيجة السباق إلى البيت الأبيض، والعقيدة الاقتصاديّة الجديدة التي ستحكمه.
فالديموقراطي باراك أوباما هو ليبرالي بنكهة يساريّة ومتّهم من خصومه بأنّه اشتراكي يريد إعادة توزيع الثروة، وهو ما يخيف الأسواق التي تفضّل بطبيعة الحال انعدام الرقابة، رغم أنّ هذا التوجّه دفع نحو انهيارها وطلبها دعم الحكومة! وفي المقابل، فإنّ أطروحات الجمهوري جون ماكاين هي محافظة تعتمد على خفض الضرائب وخفض الرقابة بالحدّ الأقصى على الأسواق.
وهذا الترقّب في الأسواق يحصل فيما تستمرّ الأرقام المتعلّقة بأداء الاقتصاد الأميركي بإظهار الأفق السوداوي الذي ينتظره. فبحسب وكالة التصنيف المالي «Moodys» فإنّ 30 ولاية أميركيّة (من أصل 50 ولاية) تعيش ركوداً اقتصادياً، و19 ولاية أخرى هي على شفير الدخول في مرحلة ركود اقتصادي.
ومن هذا المنطلق، فإنّ على الرئيس المقبل أن ينعش الاقتصاد من خلال رزمة محفّزات تُنفّذ بنودها إلى جانب السلّة الإنقاذيّة الماليّة، التي تفترض إنفاق 700 مليار دولار من أموال دافعي الضرائب لمساعدة المصارف والمؤسّسات الماليّة.
ولكن هذا التحفيز الاقتصادي القائم بطبيعة الحال على زيادة الإنفاق العام، يصطدم بواقع مرير تعانيه الماليّة العامّة الأميركيّة. فالعجز المالي خلال السنة الماليّة 2008 (انتهت في أيلول الماضي) بلغ 455 مليار دولار، وهو رقم قياسي ويمثّل 3.2 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي، ويعتقد المحلّلون أنّه سيقارب في نهاية السنة الماليّة المقبل تريليون دولار، أي 7 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي المتوقّع. والاقتصاديّون في الإجمال يرون أنّ تخطّي العجز نسبة 3 في المئة من الناتج هو واقع يدعو إلى القلق.
من جهة أخرى، فإنّ برنامجي المرشّحين يفرضان زيادة ذلك العجز. فعلى سبيل المثال، الضرائب على الأثرياء التي يتحدّث عنها أوباما ستستخدم لتوسيع برنامج الرعاية الصحيّة، الذي سيكلّف خلال العام الأوّل من عهده 115 مليار دولار، وسيرتفع سنوياً بعد ذلك. وفي المقابل فإنّ «خطّة» ماكاين الاقتصاديّة تفترض خفوضات ضريبيّة تبلغ 1.5 تريليون دولار، وخلال 10 سنوات ستكلّف الخزينة 4.2 تريليونات دولار، فيما الوجه الأوّل للإنفاق العام لديه سيكون الإنفاق العسكري!
وبإجماع المراقبين واستطلاعات الرأي، فإنّ الخطّة الاقتصاديّة التي يطرحها أوباما هي أكثر منطقيّة وعقلانيّة، إلّا أنّ ذلك لا ينفي أنّ التحدّيات الاقتصاديّة التي ستواجهه ستكون بحجم فوزه (المفترض).


النشاط الإنتاجي

يوضح «معهد إدارة العرض» أنّ مؤشّره المتعلّق بالنشاط الإنتاجي في الولايات المتّحدة انخفض من 43.5 في أيلول الماضي إلى 38.9 خلال الشهر الماضي، وهو المستوى الأسوأ المسجّل منذ عام 1982، ما يشير إلى ازدياد ضغوط موجة الركود، التي حاول الاحتياطي الفدرالي احتواءها من خلال خفض الفائدة بواقع نصف نقطة خلال الأسبوع الماضي (أصبحت 1 في المئة). ولكن المراقبين يرون أنّ الانكماش أصبح واقعاً وأدخل البلاد في مرحلة ركوديّة بالفعل قد لا تنتهي إلّا في نهاية العام المقبل، ويقابلها واقع مماثل في أوروبا.