حيال عجز استطلاعات الرأي عن بلورة توقعات دقيقة في مَن سيخرج فائزاً من السباق الرئاسي المحتدم بين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب، تلتفت الأنظار نحو اختصاصيّي علم الاستشراف والدراسات المستقبلية، في محاولة التنبؤ بهوية نزيل البيت الأبيض المقبل.كثيراً ما يُعاب على استطلاعات الرأي افتقادها الدقة في رصد اتجاهات الرأي العام وتقلباته، ويصدق ذلك خاصة على الاستحقاقات الانتخابية الرئاسية، التي غالباً ما تلعب فيها «المعطيات غير الموضوعية»، المتعلقة بشخصية كل مرشح وطباعه، دوراً غالباً على المعطيات السياسية المحضة.
يضاف إلى هذه التحفظات والشكوك مستوى آخر من التعقيد، حين يتعلق الأمر بانتخابات الرئاسة الأميركية، بفعل النظام الانتخابي الذي يزاوج بين الاقتراع المباشر (يجري على مستوى كل ولاية)، وبين النسبية التي يتحدد وفقها ــ في ضوء نتائج الاقتراع الأول ــ عدد «كبار الناخبين»، ممّن يمثلون كل ولاية في جلسة تعيين الرئيس.
فضلاً عن كل ما سبق، تواجه الاستطلاعات في المعركة الحالية بين كلينتون وترامب معضلة إضافية؛ لأن الأمر لا يتعلق بتذبذب توقعات الاستطلاعات فحسب. ورغم أن هذا القدر من التقلب ليس أمراً معتاداً في خلال الأسابيع الأخيرة قبل موعد الاقتراع، فإن الأمر لم يفاجئ المراقبين، نظراً إلى ما اتسمت به المواجهة بين المتنافسين الحاليين من شطط وعنف.
المشكلة أن الاستطلاعات، سواء التي ترجّح كفة «الملياردير المجنون» أو التي تميل إلى «مرشحة الاستبلشمنت»، تعاني جميعها إشكالية تكاد تبطل قدرتها على إطلاق التوقعات واستشراف النتائج، لأن الفوارق التي ترصدها بين المرشحين أقل من نسبة «الخطأ التقديري» المقدر بنحو 2%.
هكذا، لم يعد الإشكال المطروح يتعلق بكذب الاستطلاعات، حتى لو صدقت، بل في كونها لم تعد قادرة حتى على إطلاق التوقعات الكاذبة!
حيال هذا الوضع غير المسبوق تحولت أنظار وسائل الإعلام والمؤسسات المالية ومراكز القرار المختلفة، التي يهمها استشراف نتائج انتخابات الرئاسة الأميركية للتفاعل معها أو الاحتياط لانعكاساتها وعواقبها، نحو باحثين أكاديميين متخصصين في علم الاستشراف والدراسات المستقبلية.
الفوارق المرصودة أقل من نسبة الخطأ التقديري بـ2%

في مقدمة هؤلاء ثلاثة خبراء، أميركي وكندي وهندي، يشرفون على ثلاثة مختبرات تنبؤية هي الأكثر خبرة وصدقية في توقعات المآلات التي يمكن أن تفضي إليها مختلف الاستحقاقات السياسية والاقتصادية والديموغرافية التي تستعصي على وسائل الرصد الاعتيادية.
أول هؤلاء، أستاذ التاريخ الأميركي ألن ليشتمان، الذي طوّر عام 1981، بالاشتراك مع اختصاصيّ علم الزلازل الروسي فلاديمير كيليس ــ بوروك، معادلة سمحت له ببلورة تطبيقات لعلوم توقع الهزات الزلزالية في مجالات شتى، مثل الاقتصاد والديموغرافيا والعلوم السياسية. وقد خولته هذه المعادلة التنبؤ بدقة بنتائج كل انتخابات الرئاسة الأميركية، منذ 1984.
يقول ليشتمان إن معادلته أخضعت للدراسة والتمحيص كل الاستحقاقات منذ انتخاب أبراهام لينكولن عام 1860، وبلورت على أساسها 13 سؤالاً مفتاحياً هي الأكثر تأثيراً في السباق نحو الأبيض الأبيض. ودون أن يكشف عن طبيعة تلك الأسئلة الحاسمة، يقول ليشتمان إنه كلما كان الجواب "نعم" عن أكثر من ستة منها، تكون نتيجة الاقتراع الرئاسي في غير مصلحة الحزب الذي كان في الحكم قبل الانتخابات. بناء عليه، ترجح توقعاته، هذه السنة، بكل حسم، فوز ترامب!
أما الباحث الثاني، فهو الكندي كينتون وايت، الذي كان قد لفت الأنظار، في خلال الصيف الماضي، بسبب الدقة المتناهية التي تنبأ بها لنتيجة استفتاء «بريكست» البريطاني، رغم أنه كان من أكثر الاستحقاقات استعصاءً على التوقعات. طوّر هذا الباحث تقنية تعتمد على «الذكاء الاصطناعي»، عبر كومبيوترات بالغة القوة لتحليل ما يسميه «الرمزيات المتقدمة» التي تتحكم بالسلوك بالبشري. وتُطبّق هذه التقنية على الاستحقاقات الانتخابية على ثلاث مراحل: جمع المعطيات الخاصة بالرمزيات المتقدمة بكل معترك انتخابي، ثم إخضاعها للتحليل الكومبيوتري لبلورة «لوغاريتم» (معادلة خوارزمية) تحدد آليات صناعة القرار الانتخابي، ثم إخضاع تطورات الحملة الانتخابية دورياً لهذه المعادلة الحسابية لاستشراف النتائج.
بخصوص الانتخابات الأميركية الحالية، أسفرت معادلة وايت عن نتيجة أولى، مطلع أيلول الماضي، رجحت كفة ترامب بنسبة 45.6%، مقابل 42.6% لكلينتون، ثم أعيد إخضاع تطورات الحملة، مطلع تشرين الثاني، بعد المناظرات الثلاث وفضيحة تصريحات ترامب الجنسية، للمعادلة الحسابية نفسها، فجاءت النتيجة عكسية: فوز كلينتون بـ46.1%، مقابل45.1% لترامب.
لكل هذه النتيجة، يقول وايت، لا يمكن الاعتداد بها، لأن الفارق هنا أقل من هامش الخطأ التقديري المحدد بـ1.6 بالمئة، فضلاً عن كون هذا التقدير الحسابي المعقد تمّ قبل إعادة فتح التحقيقات الفيدرالي ضد كلينتون؛ وهو المعطى الذي يأسف وايت لعجز معادلته الحسابية عن استشراف انعاكاساته، نظراً إلى ضيق هامش الوقت بين إعلان إعادة فتح تلك التحقيقات، وموعد الاقتراع.
من جهة أخرى، يعتمد الباحث الهندي سانجيف راي، تقنية استشرافية تقوم على بلورة معادلة حسابية عبر غربلة المعطيات الانتخابية في ضوئها. لكن معادلته، التي اشتهرت بالأخص منذ تنبّئه بفوز باراك أوباما، عام 2008، تهتم حصراً بما يحظى به كل مرشح من اهتمام وتتبّع على الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي. ومن هذا المنطلق، يتوقع راي فوزاً كاسحاً لترامب، لأنه يحظى بحماسة إلكترونية تفوق بـ25% الاهتمام الذي حظي به أوباما، عام 2008، الذي كان آنذاك ظاهرة قياسية!