«أُعلِن حظر التفاوض مع أميركا كما حظره الإمام الخميني». بهذه الكلمات الصادرة على لسان رأس هرم القرار الإيراني، المتمثل في المرشد علي خامنئي، حسمت طهران موقفها من التفاوض مع واشنطن بعدما وجّه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، دعوته الأولى إلى إيران من أجل الجلوس إلى طاولة المفاوضات في آب/ أغسطس 2018، وإعلانه في الوقت ذاته انتظار اتصال من الإيرانيين يخبره بقبول الدعوة. دعوة لم تبق وحيدة، بعدما عاد ترامب نهاية الأسبوع الماضي وكرّرها في مؤتمر صحافي في البيت الأبيض، واعداً باتفاق عادل يضمن قوة إيران الاقتصادية.

في المقابل، لم ترَ طهران في هذا الكلام الأميركي سوى أنه عبارة عن «وعود فارغة»، لأنها، كما يتحدث مصدر في الخارجية الإيرانية لـ«الأخبار»، «جرّبت سلوك الإدارة الأميركية القائم على البحث عن اتفاق يعتمد على الإكراه والضغط والقوة والمال»، إلى جانب ارتفاع منسوب عدم الثقة الإيرانية بأميركا أكثر من أي وقت مضى. ويبيّن المصدر أن سلوك ترامب ينبع من «اعتقاده بأن الاتفاق النووي هو أسوأ اتفاق في التاريخ الأميركي»، ومن أجل ما سبق، فإن «إدارة ترامب حاولت طوال الفترة الماضية دفع إيران إلى انتهاك هذا الاتفاق بهدف إلقاء عبء إخفاقه على عاتق الجمهورية الإسلامية». وبناءً على ذلك، يخلص المصدر إلى أنه «لا يمكن التفاوض مع مثل هذه الحكومة»، جازماً بأن خيار رفض التفاوض من قِبَل إيران سيبقى مستمراً إلى أن «يُعلن الأميركيون عودتهم إلى إطار الاتفاق النووي، بالإضافة إلى التزامهم به».

الأوروبيون يعتبرون الاتفاق النووي اتفاقاً أمنياً أكثر من كونه اتفاقاً سياسياً


اتفاق يعتقد المحلل السياسي الإيراني، حسن أحمديان، أن «طهران لم تخض غمار المباحثات المُفضية إليه قبل اقتناعها بعدول واشنطن عن سياسة تغيير النظام». ويلفت أحمديان، في حديث إلى «الأخبار»، إلى أن سياسة تغيير النظام «ترد في بعض الأحيان على لسان ترامب كهدف أساسي يسعى البيت الأبيض بإجراءاته العقابية على إيران إلى تحقيقه»، وهذا برأيه يُصنَّف إيرانياً في خانة الضغوطات التي يتصور أحمديان أن طهران لن تذهب إلى التفاوض مع واشنطن من دون إزالتها، لأن عكس ذلك سيؤدي إلى تعزيز فكرة «الانحناء الإيراني تحت الضغط».
من جانب آخر، لم يغب عن طهران تزامن دعوات ترامب الجديدة إلى الحوار مع الحشد العسكري الأميركي في المنطقة المحيطة بالجغرافيا الإيرانية. فجاء ردّها الأول على تلك الدعوة الأميركية إلى المفاوضات على لسان نائب القائد العام للحرس الثوري، يد الله جواني، الذي شدّد على أن إيران «لن تجري أي مفاوضات مع الأميركيين»، مُردفاً هذا الجزم بالتأكيد أن بلاده «تشهد اليوم إجماعاً ووحدة وطنية منقطعة النظير لمواصلة الصمود الاستراتيجي». ورغم أن مصدر الخارجية الإيرانية وضع في سياق حديثه إلى «الأخبار» التهويل العسكري في سياق «الحرب النفسية» التي تحاول أميركا أن تضغط على إيران بها، فإنه أبقى «كل الاحتمالات مفتوحة» في حال موت الاتفاق النووي، لأن المنطقة برأيه «لن تكون أكثر أماناً بعد موت الاتفاق». كما أنه يلفت إلى أن «إيران لن تبدأ بالحرب»، لكن «قوتها الدفاعية عالية»، والأميركيون «يعرفون أن الدخول في حرب مع إيران ليس في صالحهم».



مصير الاتفاق النووي
في الذكرى الأولى للانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، دشّنت طهران مساراً جديداً في التعاطي مع الاتفاق، ابتدأته بالامتناع عن بيع اليورانيوم المخصّب والماء الثقيل المنتجَين داخل مفاعلاتها النووية، مُبيّنة أن اللجوء إلى تلك الإجراءات جاء بسبب المماطلة الأوروبية في تنفيذ الالتزامات المطلوبة لحماية مصالح إيران المُتضمَّنة في الاتفاق. وحذرت إيران، في بيان صادر عن المجلس الأعلى للأمن القومي، الدول الأوروبية من أنها إن لم تنفذ التزاماتها المتعلقة بالمجال النفطي والمصرفي، فإن هذه الخطوات ستُستتبع بعد ستين يوماً بتحديث مفاعل الماء الثقيل في آراك، إلى جانب تعليق الالتزامات المفروضة على مستويات تخصيب اليورانيوم المحددة في الاتفاق النووي بـ3.67 %. وحول ذلك يؤكد المصدر في وزارة الخارجية الإيرانية لـ«الأخبار» أن «مهلة الشهرين غير قابلة للتجديد، إلا في حال تلبية مطالبنا»، كاشفاً في الوقت عينه أن الدول الأوروبية أقرّت خلال مفاوضاتها مع إيران طيلة العام الماضي بأن «رفع العقوبات وضمان المزايا الاقتصادية لطهران جزء حيوي من الاتفاق النووي». ويضيف: «على إثر هذا الإقرار، التزمت الدول الأوروبية خلال لقاءاتها معنا بتوفير حلول عملية وفعالة تشمل 11 مجالاً، خصوصاً تلك المتعلقة بالنفط والبنوك»، مشيراً إلى أن «تتالي الإجراءات الأميركية في ظلّ عدم وفاء الأوروبيين بوعودهم، جعل الاتفاق النووي في حال ليس بالجيد». ورغم ما سبق، فإن المصدر يرى أن «النافذة الدبلوماسية لا تزال مفتوحة»، بينما ترى صحيفة «همدلي» الإصلاحية، في تقرير لها، أن «الخيار الوحيد أمام طهران هو التفاوض مع أميركا»، مبررةً ذلك بـ«غياب التأثير الفعال للجانب الأوروبي على الاتفاق النووي، في ظلّ تبعيته لأميركا». لكن أحمديان، من جهته، لا يرجّح سقوط طهران في حضن إدارة ترامب أثناء بحثها عن بدائل التعاون الأوروبي، وإنما يحتمل حدوث «عودة إيرانية إلى المربع الأول المتمثل في الخروج من الاتفاق النووي».
لا يمكن للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني أن يقرر المضي قدماً في اتجاه قد يُختتم بموت الاتفاق النووي، سواءً بخروج طهران منه أو بتنفيذها خطوات تفقده مضمونه، من دون أن يتدارس في أروقته تبعات ذلك الاتجاه ومقومات البقاء فيه حتى تحقيق مصالح البلاد. وفي ظلّ استبعاد طهران للحرب، أقلّه خلال المرحلة الحالية، فضلاً عن «عدم ورود أي مستجد يدعو طهران إلى التصعيد العسكري أو استخدام نفوذها الإقليمي للضغط»، كما يرى أحمديان، فإن الجهد المبذول إيرانياً لتحقيق تطلعاتها المعلنة يتركّز في مستويَي الاقتصاد والسياسة. سياسياً، يسعى الإيرانيون إلى إحداث اختراقات لصالحهم على الصعيد الدولي من خلال إبداء «الاستعداد التام لمواصلة المشاورات مع بقية أعضاء الاتفاق النووي على جميع المستويات»، بحسب تأكيدات المصدر في الخارجية، الذي ينبّه إلى أن فرض عقوبات جديدة على بلاده «سيضعف الاتفاق النووي وسيزيله عملياً». ومن خلال تشخيص النظرة الأوروبية إلى الاتفاق النووي، القائمة برأيه على أن «الأوروبيين يعتبرون الاتفاق النووي اتفاقاً أمنياً أكثر من كونه اتفاقاً سياسياً»، يخلص المصدر إلى وجود ورقة ضغط تُضاف إلى الحقيبة الديبلوماسية الإيرانية، ماهيتها أن «أوروبا والمنطقة ستُصاب بتأثيرات سلبية إذا ما تمت إزالة الاتفاق النووي بشكل عملي من خلال عدم تفعيله بالكامل».


الملف الاقتصادي
في موازاة المستويين السياسي والدبلوماسي، تولي طهران أولوية قصوى للمستوى الاقتصادي، لِما له من تأثيرات إيجابية أو سلبية على الأوضاع المعيشية، التي يُرهن بها نجاح أو فشل الاتجاهات المقرِّرة لسياسة البلاد. وتتضاعف أهمية هذا الجانب في ظلّ قيام الولايات المتحدة بفرض عقوبات على الصادرات الإيرانية غير النفطية (شملت قطاع المعادن الذي يقع بأيدي الشركات الخاصة)، والتي يتغيّر سعرها بحسب العرض والطلب، الأمر الذي يُصعّب إمكانية توفير إحصاءات دقيقة لعائداتها السنوية، وفق ما يفيد به الخبير الاقتصادي الإيراني، صباح زنغنة، قبل أن يُقدّر في حديثه إلى «الأخبار» قيمة هذه العوائد بـ«10 مليارات يورو». حالة التضييق الأميركي التي تتصاعد تدريجياً، والمترافقة مع التراجع المستمر في قيمة العملة الإيرانية (التومان) مقابل الدولار، جعلت إيران تعود مجدداً إلى سياسة الالتفاف على العقوبات التي خبرتها جيداً. ورغم «زيادة الصعوبات في طريق الالتفاف على العقوبات» بحسب ما يقرّ زنغنة، فإنه يلفت إلى أن تلك الطريق «أصبحت أكثر إنتاجية، لأن العقوبات أحادية وليست دولية».
أما على الصعيد الأكاديمي والعلمي، فقد فتحت الأوضاع الصعبة في الأسواق الإيرانية الأفق واسعاً أمام الخبراء الاقتصاديين للتفكير في الخيارات الأنسب لتقليل الخسائر المترتبة على الحصار الاقتصادي، إن لم تستطع إيران تجاوزه كما هو مأمول. الأفكار المطروحة تتمحور حول شعار «ازدهار الإنتاج» الذي أطلقه المرشد خامنئي على السنة الإيرانية الحالية، لكنها تتباين في شأن القدرة على إنجاز الاعتماد على الذات بالشكل الكامل. وهو ما يسميه صباح زنغنة «الاكتفاء الذاتي المطلق»، الذي يرى أنه «غير وارد في الوقت الحاضر»، عازياً ذلك إلى «اعتماد الاقتصاد الإيراني منذ خمسة عقود على النفط الذي قلّصته الحكومة في الفترة الأخيرة إلى حوالى 30 ــــ 40 %، وعملت في المقابل على تطوير الإنتاج الزراعي والخدمات». وهذا ما يُرجّح بحسب زنغنة «إمكانية إنجاز أداء واقعي أفضل من زمن الحرب العراقية ــــ الإيرانية إذا ما تم تطبيق سياسات الاكتفاء الذاتي في كلٍّ من المنتجات الضرورية، كالماء والكهرباء والطاقة والسلع الأساسية». أما الاكتفاء الذاتي في ما هو أكثر من ذلك، فإنه يعتمد وفق تصوره على «تنمية القطاع الخاص في الدرجة الأولى، ومكافحة الفساد الإداري والمالي، واعتماد الطاقات الشبابية في تطوير المبادرات والمشاريع وتقنية المعلومات والخدمات السياحية».