في الحديث عن علاقة الشهيد الجنرال قاسم سليماني بفلسطين كلام طويل، وقصص مخبّأة ربما ستظهرها الأيام القريبة. لكن معرفة النزر اليسير منها يكفي لفهم ما كانت تعنيه فلسطين، والقدس خصوصاً، لقائد «فيلق القدس». وإن كانت علاقة سليماني بفلسطين قد بدأت منذ شارك في طلائع الثورة الإسلامية في إيران، فإنها أخذت مسارها عسكرياً وإدارياً سنة 1998، عندما استلم قيادة الفيلق، وهو جزء من «حرس الثورة»، خَلَفاً لأحمد وحيدي الذي أدار هذا الملف لسبع سنوات. منذ ذلك التاريخ وحتى استشهاده أمس، قاد سليماني الفيلق الشهير 21 سنة، شهدت خلالها فلسطين انتفاضة الأقصى الثانية (2000) التي تَلَتْها نقلة نوعية في قدرات المقاومة الفلسطينية، ما عادت خافية على أحد.«تقريباً لا يوجد في فلسطين صاروخ، أو حتى بندقية، ليست عليها بصمة سليماني»، يقول قيادي في المقاومة. ربما يكون في ذلك مبالغة؟ يردّ القيادي: «من يعرف كيف كان يتعامل الحاج مع فلسطين لا يرى في هذا الكلام أيّ مبالغة... صحيح أنه يهتمّ بأدق التفاصيل في كلّ خطواته والمعارك التي خاضها، لكن عندما يتعلق الأمر بفلسطين تصير التفاصيل عشقاً، لدرجة أنه كان يمكن أن تسأل الحاج الكبير، كما كنا نُكنّيه، عن شوارع في غزة أو جنين فيجيبك عنها». هذه التفاصيل هي التي قادت الشهيد إلى الإشراف شخصياً على إيجاد طريق للصواريخ والأسلحة كي تصل القطاع وتُغيّر المعادلات، التفافاً من الخليج إلى البحر الأحمر، فالقرن الأفريقي، مروراً بإريتريا ثمّ السودان حيث المصانع المُخصّصة لتجميعها، قبل أن تُرسَل إلى المقاومة عبر شبه جزيرة سيناء. كان هذا المسار الأول لرحلة الصواريخ قبل أن يُؤخذ القرار بأن تصنع غزة سلاحها بأنواعه. «عندما كان الوضع صعباً في سيناء، في مراحل عدة، وكانت المقاومة بحاجة ماسة إلى السلاح، غامر الحاج بفكرة أن تعبر السفن قناة السويس وتلقي الأسلحة ببراميل بعد دراسة التيارات البحرية الواصلة إلى غزة»، يروي القيادي، مضيفاً أن «المقاومين كانوا يدخلون مسافة قصيرة في البحر ويلتقطون غالبيتها... التوفيق الإلهي عاملٌ أساسي في عمل الشهيد سليماني، لكن الجنون والإبداع يحضران دوماً».
بعد خروج العدو الإسرائيلي من غزة عام 2005، صارت فكرة «تسلّل» الحاج إليها مطروحة عنده فعلياً. هل دخل إلى القطاع؟ «ثمة حديث عن دخول الشهيد عماد مغنية مرة. لا أحد يستطيع أن يؤكد هذا الشيء. لكن سليماني كان يذكر هذا الأمر كتمنٍّ، وأحياناً ما بين المزح والجدّ. الفكرة كان أمامها موانع كثيرة... عملياً لم تَقْوَ شوكة المقاومة وتبسط سيطرة فعلية على غزة إلا بعد سنوات»، يستدرك القيادي. مع ذلك، ما من قائد فلسطيني بارز، عسكري أو سياسي، إلّا والتقاه الحاج، لأنه كان معنياً بلقاء الكلّ من دون استثناء لأيّ طرف مهما كان حجمه الميداني والشعبي، والإصغاء إليهم في أدق التفاصيل. أكثر من ذلك، تَوسّط في حلّ عدد من الخلافات بين الفصائل في مراحل مختلفة. كان يشاركهم الطعام، ولم تقتصر لقاءاته معهم على إيران، بل جرت في سوريا ولبنان... «ودول أخرى»، بحسب القيادي نفسه.
كان الرجل متابعاً دقيقاً لكلّ ما يتعلق بفلسطين، ليس في الشؤون العسكرية والأمنية فقط، بل وأيضاً التاريخية والجغرافية وحتى التراثية. وقد أنشأ وحدات متعدّدة المهمّات في الملف الفلسطيني، مثل الإعلامية والسيبرانية والحرب النفسية... إلخ. «تابع كلّ شاردة وواردة في فلسطين. وكان عاشقاً للقدس وتاريخ المدينة... ربما يكون انشغل بسبب الحرب في العراق وسوريا وأيضاً اليمن، وأوكل جزءاً من مهماته إلى نائبه (إسماعيل قاآني، المسؤول عن الفيلق الآن) ومسؤولي الملفات المشهورين بأسمائهم المستعارة، لكنه في المحطات المفصلية كان حاضراً دائماً، ولم يُفوّت لقاء واحداً مع الفصائل الفلسطينية عندما كان يُطلب منه». يقول القيادي: «ثمة مثال بسيط على عمق العلاقة: لمّا قرّرَت حماس تعديل ميثاقها السياسي، بادرت بأن أرسلت إليه نسخة للاطلاع عليها بعد أن اعتمدها مكتبها السياسي، لكي تأخذ ملاحظاته قبل أن تعلن الميثاق».
لما أعلن ترامب القدس «عاصمة لإسرائيل» سارع سليماني إلى الاتصال بغزة


أما ما حصل عليه سليماني من تسهيلات كبيرة من القيادة السورية للمقاومة الفلسطينية، فكانت توازي ما أخذته تلك الفصائل تلقائياً من دمشق خلال سنوات العلاقة الطويلة بينها. إذ حصل الجنرال على إذن من الرئيس بشار الأسد لإجراء التجارب الصاروخية في البادية السورية، كما نال إذناً بهبوط طائرات على مدرج خاص في أحد المطارات العسكرية، من دون أن يسأل العسكريون السوريون عن هويات الآتين والخارجين، إلى جانب امتيازات أخرى كثيرة. وما هي إلا سنوات قليلة حتى أتى الاختبار الصعب: الحرب في سوريا. يجزم كلّ العارفين بالعلاقة أن سليماني لم يقطع، حتى في أسوأ مراحل التوتر بين «حماس» وإيران، التواصل مع الحركة، ولاسيما جناحها العسكري الذي استمرّ في تزويده بالسلاح والمال من دون تأخير أو منع. كان هذا ثابتاً أساسياً لدى سليماني: لا شيء يمنعنا من أن ندعم فلسطين حتى لو خضنا مواجهة مباشرة مع أيّ فصيل فلسطيني! وبمجرد أن انتهت المعارك الكبرى في سوريا، سارع الجنرال إلى تحسين العلاقات بين أطراف المحور كافة، فأصلح كثيراً منها وخفّض حدّة التوتر في أخرى، على أن يأخذ الوقت مداه في حلّ ما تبقى.
حتى الأسابيع الأخيرة، أجرى سليماني لقاءات مع عدد كبير من القياديين الفلسطينيين، العسكريين والسياسيين، دارساً معهم بالتفصيل احتياجاتهم الملحّة في ضوء الضغوط الاقتصادية المتصاعدة على محور المقاومة، ومُقيِّماً معهم المواجهات الأخيرة مع العدو الإسرائيلي. يستذكر قياديون أنه في الشهر الأخير من عام 2017، لما أعلن دونالد ترامب القدس «عاصمة لإسرائيل»، اتصل سليماني بقيادة «كتائب القسام»، الذراع العسكرية لحركة «حماس»، و«سرايا القدس»، الجناح العسكري لـ«الجهاد الإسلامي»، في غزة. كان الاتصال مباشراً و«حميمياً»، وفيه تأكيد من الحاج لاستمرار «الدعم المفتوح» لفصائل المقاومة كي تكون «جاهزة للدفاع عن المسجد الأقصى». لم يحدّد لهم الآليات والكيفية، كما العادة، بل قال إن «كلّ مقدّراتنا وإمكاناتنا تحت تصرفكم في معركة الدفاع عن القدس».