ربّما لن نعرف أبداً نوع الوثائق التي أُحرقت في القنصلية الصينية في هيوستن، في الأيام التي سبقت إجبارها على الإغلاق، بعد اتّهامها مِن قِبَل الولايات المتحدة بأنّها «وكر تجسّس». وقد لا نعرف أبداً سبب الحريق الكارثيّ الذي اندلع، في وقتٍ سابق من الشهر الجاري، على متن البارجة العسكرية الأميركية الضخمة «يو إس إس بونوم ريتشارد» في ميناء سان دييغو. لكن علينا أن نعرف أن الحريقين هما في الواقع حريق واحد. فنحن نتسابق نحو صراع مع الصين، ربّما لسنا مستعدّين لشنّه.قرار إغلاق القنصلية الصينية في هيوستن جاء في أعقاب أربعة خطابات عدائيّة على لسان كبار المسؤولين في الإدارة الأميركية. وهي خطابات ترقى، مجتمعةً، إلى مصاف إعلان حرب باردة ضدّ الصين؛ فمستشار الأمن القومي، روبرت أوبراين، صوّر القيادة الصينية على أنها «ماركسية لينينية غير مُرمّمة»، وتحدّث مدير «مكتب التحقيقات الفدرالي»، كريستوفر راي، عن ممارسة بكين لفنون «التأثير الأجنبي الخبيث»، واتهم وزير العدل، بيل بار، هذا البلد بافتعال «حرب اقتصادية خاطفة»، فيما لمّح وزير الخارجية، مايك بومبيو، إلى حاجة «العالم الحرّ» إلى نسخة جديدة من «حلف شمال الأطلسي»، «الناتو»، تستهدف بكين هذه المرّة، بدلاً مِن موسكو.
بالنظر إلى أن المصدر هو فريق ترامب، وأن التوقيت انتخابي، يبدو مغرياً نبذ التحذيرات الخطابيّة واعتبارها ساخرة ومنافقة وسياسية، وتالياً خاطئة. لماذا التباكي على الحريات المدنيّة في هونغ كونغ، وأنتَ تدير فرقاً مِن الحمقى في بورتلاند؟ ولماذا اتّهام الصين بتخريب المعايير العالمية، بينما يعدُّ ذلك طموح ترامب الأوّل منذ تَبوَّأ منصبه؟ ولماذا وصف الرئيس الصيني شي جين بينغ بأنه «تابع مخلص لإيديولوجية شموليّة مفلسة» على خطى ستالين، بينما، كما يطلعنا مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون، في كتابه الأخير، يغرقه ترامب بالثناء، ويطلب مساعدته لتأمين إعادة انتخابه؟
المشكلة في هذه الأسئلة أنها تحجب حقيقتين صعبتين ستواجههما إدارة بايدن أيضاً: الأولى هي أن الصين أصبحت، في ظل حكم الرئيس شي، أكثر قمعاً في الداخل، وأكثر عدوانية في الخارج، وأكثر وقاحة مِن أي وقت مضى.
تلك ليست مسألة ردّ فعل صينية سيئة تجاه ترامب؛ يرجع تاريخ بعض أكبر عمليات السرقة الرقميّة الصينية إلى عهد أوباما (ومنها اختراق مكتب إدارة شؤون الموظفين عام 2015، والذي منح بكين ملفات ما يقرب من 22 مليوناً من موظّفي الحكومة الأميركية الحاليين أو السابقين وأفراد أسرهم). أما مطالبات الصين الفظيعة وغير القانونية بالاستحواذ على الموارد في المياه المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي، فتسبق ترامب وستتفاقم لوقتٍ طويل بعد رحيله.
هناك حقيقة ثانية تقول بتضاؤل قوّة الولايات المتحدة في شرق آسيا. قرار إدارة ترامب الانسحاب من «اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ» (وابتزاز الدول في أمنها لدفع المزيد من المال مقابل تمركز القوات الأميركية) - وهي أفضل وسيلة للتحوّط تملكها الولايات المتحدة ضدّ الهيمنة الاقتصادية الصينية في المنطقة -، ربّما يكون الخطأ السياسي الأكبر لهذه الإدارة.
ثم هناك الحالة المتدهورة للبحرية الأميركية، والتي يجسّدها الحريق على متن «بونوم ريتشارد» (الأحدث في سلسلة الفساد وفضائح التكلفة والكفاءة). لمّا تبوّأ منصبه، وعد ترامب بتنفيذ خطط كبيرة لرفع عدد سفن البحرية الأميركية من 300 إلى 355 (يعترف «البنتاغون» بأنه ليس لديه أمل في الوصول إلى هذا الهدف). في الوقت ذاته، تمتلك البحرية الصينية - التي لا تنتشر في جميع أنحاء العالم - 335 سفينة (زاد عددها بنسبة 55% في الأعوام الـ15 الأخيرة).
إذا صدف أن تبادلت الولايات المتحدة والصين الضربات بعد حادثة ما في بحر الصين الجنوبي، هل نحن واثقون مِن أنّنا سننتصر؟
عندما يصبح جو بايدن رئيساً، لن يكون في حاجة إلى الطلب من أعضاء حكومته إعداد خطاب مهمّ ضدّ بكين. لكن، كما كتب جورج كينان ذات مرّة عن نظام آخر، عليه أن يكون مستعداً لمواجهة الصين بـ«قوة مضادة غير قابلة للتغيير في كل نقطة تظهر فيها علامات التعدّي على مصالح عالم مسالم ومستقر».
(بتصرّف - بريت ستيفنز «نيويورك تايمز»)