قبل أن يصبح «لبنان أولاً» عقب اغتيال رفيق الحريري وهبّة 14 آذار 2005، كانت قد سبقت لبنان في «الأَوْلَنة» بلدان عديدة شهدت ثورات ملوّنة رعتها واشنطن لتثبيت أحادية قطبيّتها في خريطة الهيمنة العالمية. لم تكن الحملات الإعلانية والشعارات التي رافقت تلك المرحلة إبداعاً لبنانياً، بل نموذجاً مستنسخاً لَبْنَنَهُ مترجمون وأضاف عليه جيشٌ من مصمّمي الغرافيك لمسات "أرزويّة"، ليميّزوه عن الحملات الأخرى التي لوّنت عدّة بلدان من العالم القديم في العقد الأول من الألفيّة الحالية. لكن في القارّة الأميركية يختلف التعامل مع التطوّرات، حيث تعتمد واشنطن ما يسمّى مبدأ مونرو (نسبة لجيمس مونرو الذي ترأّس الولايات المتحدة منذ مئتَي سنة)، والذي يَعتبر كلّ تدخّل في القارة مساساً بأمنها، وبالتالي تسمح لنفسها بمحاولة إحباطه. طبعاً، لم تقصد واشنطن كلّ الغزاة الوافدين من القارّة الأوروبية، بل مَن عادى حلفها في الحرب الأنغلو-إسبانية المحتدمة في حينها لبسط السيطرة على القارّة. في المقابل، حذّر قادة معارك الاستقلال ضدّ الاستعمار في جنوب القارّة، وأبرزهم سيمون بوليفار، من نيّات واشنطن، وأن "مونرو" لم يكن يطرح ميثاقاً للعمل التحرّري المشترك، بل إن نظام واشنطن أراد أن ينصّب نفسه خاتم المستعمرين في القارّة، ويؤكد أن لا وصيّ بعده. وكان سيمون بوليفار في حينها يترأّس كولومبيا الكبرى، والتي تشمل كولومبيا وفنزويلا والإكوادور وبنما وأجزاء من البيرو والبرازيل. لم تتوقّف معارك الاستعمار والتحرّر، وهي مستمرّة إلى اليوم، وفي كلّ حقبة يخرج تفسير جديد من واشنطن لمبدأ مونرو وماهيّته. كما أنه شكّل عنواناً بارزاً في الحرب على الشعوب عند صعود الحركات التحرّرية اليسارية في القرن العشرين، والمجازر التي ارتكبتها الديكتاتوريات العسكرية اليمينية المدعومة من واشنطن، وأبرزها «عملية كوندور» التي قتلت وأخفت عشرات الآلاف وسجنت وعذّبت مئات الآلاف من الفاعلين السياسيين اليساريين في أميركا الجنوبية. بالمناسبة، قائد هذه العملية، مجرم الحرب هنري كيسنجر، ما زال حياً، وقد اتهمه الرئيس الأميركي الحالي، جو بايدن، في أوائل سبعينيات القرن الماضي، بتوسيع «مبدأ مونرو» ليطال العالم، إثر دعمه لمجازر يحيى خان وسوهارتو في إطار حربه على الشيوعية. لكن كيسنجر نهْج، وفي كلّ سياسي أميركي من الحزبين الحاكمين كيسنجر صغير، حتى في حبيب الجماهير، بيرني ساندرز، الذي وصف القائد الثوري الراحل، هوغو تشافيز، يوماً، بـ«الديكتاتور الشيوعي الميت». [اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
يقضّ شبح هوغو تشافيز، اليوم، مضاجع كيسنجر والكيسنجريين من كولومبيا سيمون بوليفار الكبرى. فالثورة البوليفارية التي انطلقت في إقليم فنزويلا من المشروع التحرّري التاريخي، لا تزال صامدة في عامها الثالث والعشرين، على رغم كلّ محاولات واشنطن لإفشالها. فلم ينفع الحصار الاقتصادي ولا الانقلابات المسرحية ولا العمليات العسكرية في هزيمة الثورة. ولطالما كان نظام بوغوتا في الإقليم الكولومبي رأس حربة العمالة لواشنطن في محاولاتها تفكيك المنطقة وإفشال أيّ مشروع تحرّري فيها، ولم يختلف الأمر عندما وصل تشافيز إلى الحكم، إذ سارعت وشنطن إلى تحصين قاعدتها الأمامية في معركتها الأزلية للهيمنة على القارّة. ألقت بكامل ثقلها لتدعم حليفها (عميلها) الأوّل ألفارو أوريبي وحركته المناهضة لليسار، والتي سمّاها بطبيعة الحال «كولومبيا أولاً». هكذا انطلقت الحقبة الأوريبية في عام 2002، والتي كانت وظيفتها الأساسية محاربة المدّ الثوري البوليفاري، وهي اليوم تتمثّل في دمية رئاسية اسمها إيفان دوكي، يحرّكها أوريبي وشاغلو وزارة الخارجية الأميركية. أطلق أوريبي عندما تسلّم الرئاسة، بأوامر ودعم من واشنطن، حملة عسكرية واسعة على مجموعات القوات المسلّحة الثورية في كولومبيا، المعروفة بـ«فارك»، وانتهى الأمر باتفاق أنهى حالة الحرب معها، لكن استؤنفت بعدها حملات اغتيال «كوندورية كيسنجرية» لقياداتها الذين تركوا السلاح، وفاعلين سياسيين آخرين، وهي ما زالت مستمرة. وصل دوكي إلى الرئاسة الكولومبية قبل أشهر من مغامرة دونالد ترامب ومايك بومبيو وماركو روبيو وإليوت أبرامز الانقلابية في فنزويلا، والتي عوّلت على المدعو خوان غوايدو لإطاحة الثورة. هل تذكرون أيّاً من الأسماء هذه؟ طبعاً التعويل لم يكن على غوايدو فقط، بل أيضاً على دور جيران فنزويلا في نظام بوغوتا، الذي يُنعت بـ«إسرائيل» أميركا الجنوبية، نظراً إلى الدور الخدماتي الذي يؤديه لواشنطن، وفي البرازيل، حيث نجحت واشنطن في إطاحة الرئيسة المنتخبة وسجْن الرئيس السابق، فاتحة المجال أمام وصول عاشق «إسرائيل» جائير بولسونارو، أو دونالد ترامب الجنوب، إلى الحكم.
سمح الغباء الأسطوري للإدارة الأميركية السابقة وحلفائها في جنوب القارة لقوى اليسار بالتقاط أنفاسها


إن خُيّر أي ثائر اختيار أفشل فريق قيادة لعدوه، كان سيصعب عليه حتى الحلم تجميع فريق كالمذكور أعلاه، والذي واجه الثورة البوليفارية في السنوات الثلاث الماضية. هذا وانضمّ إليهم، لسبب ما، الملياردير البريطاني ريتشارد برانسون، الذي نظّم كرنفالاً في مدينة كوكوتا الكولومبية التي تقع على الحدود مع فنزويلا، اشترك فيه فوق الثلاثين من نجوم البوب اللاتيني (قد يكون بعضهم اعتذر للسفير السعودي في بلادهم عمّا قاله وزير خارجية لبنان السابق). ولم تمنع صداقة برانسون الحميمة مع باراك أوباما من رعاية الحملة الانقلابية لغريمه دونالد ترامب. أحياناً، يسدي أعداؤك لك خدمة، وما عليك إلّا استغلالها. وهذا ما حدث، إذ سمح الغباء الأسطوري للإدارة الأميركية السابقة وحلفائها في جنوب القارة، لقوى اليسار، بالتقاط أنفاسها واستعادة المبادرة، واستعادة بلاد بأسرها كما حدث في بوليفيا التي أفشل شعبها الانقلاب العسكري على إيفو موراليس، وأعاده "صاغاً سليماً" إلى بلاده.
مرّ أكثر من شهر على انطلاق إضراب عام في كولومبيا. هناك مآخذ كثيرة للشعب الكولومبي على ممارسات «الأوريبية» في الحكم انفجرت في هذا الحراك الشعبي الواسع. في الأسبوع الثالث للإضراب، ووسط أكبر أزمة تعيشها حركته منذ نشأتها، غرّد ألفارو أوريبي عن «حقّ دولة إسرائيل في الدفاع عن سكّانها ورموزها ومعابدها الدينية». في المقابل، هناك خطاب مصوّر شهير لهوغو تشافيز يَلعن فيه دولة «إسرائيل» القاتلة والإرهابية، ويقول البعض إنه جلب بذلك غضب الآلهة على نفسه وبلده. في شوارع المدن الكولومبية المنتفضة، ترتفع أعلام فلسطين إلى جانب الأعلام الكولومبية، بينما أُحرق في الأمس علما الولايات المتحدة وإسرائيل في ذكرى الشهر على انطلاق الإضراب. قد يقول شامتٌ إن النظام العميل لواشنطن في بوغوتا استجلب غضب تشافيز بطلبه بركات «إسرائيل». لِنَدع الخرافات جانباً، ولا نستبق الأمور في نضال الشعب الكولومبي، لكن الواضح أن الثورة البوليفارية مستمرّة في معركتها التحرّرية، ولا تعترف بحدود، وترى عدواً استعمارياً واحداً وإن كَثُر عملاؤه. هذا ويتجلّى للبوليفاريين في قارّتهم البعيدة ما يُحرج بعض الأقربين من عملاء المستعمرين والمطبّعين، وهو أنه مهما حدث، الشعوب سوف تلعن «إسرائيل» وتلعنكم معها، وأنه لا تحرّر وطنياً إن لم تكن فلسطين أولاً.