كيف تحوّلت عملية انقلابية روتينية في بلد يحتلّ المرتبة الأخيرة في التنمية البشرية، بحسب تصنيف الأمم المتحدة، إلى نقطة جذب وتجاذب بين الغرب وأعوانه وزبائنه الإقليميين من جهة، وبين القوى المناهضة له من جهة ثانية؟ لماذا هذه التعبئة السياسية والإعلامية المفرطة إزاء انقلاب هو الثامن منذ حصول النيجر على استقلالها من فرنسا عام 1960، ناهيك عن عشرات المحاولات الانقلابية الأخرى التي أُجهضت في مهدها؟ فبعد ساعات من قيام الجنرال عبد الرحمن تياني، رئيس الحرس الرئاسي في النيجر، بإطاحة محمد بازوم، رئيس الجمهورية الذي كان قد انتُخب عام 2021 في ظروف شكّكت المعارضة آنذاك في شفافيتها وديموقراطيتها، بدأت ردود الفعل الغربية والإقليمية تتوالى بشكل دراماتيكي، مطالِبةً بعودة الرئيس المعزول وعودة المؤسسات الدستورية إلى وضعها السابق. هذه المواقف كانت متوقّعة؛ إذ إن ميثاق «الاتحاد الأفريقي» ينصّ على إدانة الانقلابات مهما كانت أسبابها، وتجميد عضوية الأنظمة التي تستولي على الحكم بالقوة حتى عودتها إلى العملية الدستورية من خلال الانتخابات، وهذا ما تعمل به أيضاً التجمّعات الإقليمية من مثل «المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا» (الإكواس أو السيدياو/ ECOWAS). وعلى رغم أن الأخيرة كانت قد أنشئت عام 1977 على أسس اقتصادية بحتة لـ«تعزيز النمو الاقتصادي والتنمية في غرب أفريقيا»، أي في الدول الأعضاء الخمس عشرة التي تتكوّن منها، وعلى مبدأ رفض العدوان والتدخّل الخارجي في شؤون بعضها البعض، إلّا أنها سرعان ما توسّعت تدريجياً لتشمل، بضغط من الدول الغربية، السياسة والأمن والثقافة. وللتذكير، فقد تبنّت هذه المجموعة، في مطلع عام 1978، ميثاق عدم اعتداء للمساعدة في الحفاظ على السلام في المنطقة وبين الدول المنضوية في عضويتها. ثمّ أنشأت في عام 1990، بعد انتشار العديد من الصراعات والحروب الأهلية في الدول الأعضاء، مجموعة لمراقبة تطبيق وقف إطلاق النار أُطلق عليها اسم الـ«إيكوموغ» (Ecomog)، وهو اختصار لـ«Economic Community of West African States Cease-fire Monitoring Group». وسرعان ما تحوّلت الـ«إيكوموغ» إلى ذراع عسكرية محدودة القوة للتدخّل في بعض تلك الصراعات، أحياناً بالوكالة عن الأمم المتحدة، وفي معظم الأحيان لخدمة الدول الغربية كما جرى على سبيل الذكر لا الحصر في ساحل العاج وليبيريا وسيراليون وغينيا بيساو وغامبيا. والمفارقة أن الدول التي كانت تزوّد الـ«إيكوموغ» بمعظم الوحدات العسكرية، إذا ما استثنينا نيجيريا والسنغال، كانت دولاً ضعيفة اقتصادياً مثل بينن وبوركينا فاسو وغامبيا وغينيا ومالي والنيجر وسيراليون، وقد وقعت بشكل أو بآخر ضحية تدخّل عسكري من المجموعة، ودخل بعضها في صراع مباشر معها (مالي، غينيا، بوركينا فاسو والنيجر).
وكانت هذه التدخّلات العسكرية تتمّ، إلى ما قبل الحرب الغربية على ليبيا، بموافقة مجلس الأمن وبتمويل أساسي من الدول الغربية، فيما ظلّت روسيا والصين تمتنعان عن استعمال حق النقض إزاءها طالما أن بعض الدول الأفريقية هي التي تطالب بها. ولكن هذا الموقف المحايد تحوّل بعد العدوان الأطلسي على ليبيا وسوريا عام 2011، إلى موقف ممانع لأيّ تدخل غربي في أفريقيا. لا بل إن روسيا والصين بدأتا تدعمان عسكرياً واقتصادياً الدول التي تناهض الهيمنة الغربية. وقد بدأ التدخل الروسي، عبر ميليشيا «فاغنر»، منذ عام 2017، بطلب من حكومة جمهورية أفريقيا الوسطى، والتي كانت مهدَّدة بالسقوط بسبب رفض القوات الفرنسية الدفاع عنها، وانسحابها أمام عشرات الميليشيات المموَّلة من الخارج. وعندما دخلت روسيا تلك الدولة ابتداءً من كانون الأول 2017، كانت حكومة بانغي في وضع سياسي وأمني متدهور، فيما الجماعات المسلحة تسيطر على 80٪ من البلاد، وتتسبّب بأزمة إنسانية واسعة النطاق. كما أن ما يقرب من 11 ألفاً من ذوي الخوذ الزرقاء التابعين لبعثة الأمم المتحدة المتكاملة والمكلفة بتحقيق الأمن والاستقرار في أفريقيا الوسطى (مينوسكا)، بدوا عاجزين عن حماية السكان المدنيين بشكل فعال.
أمام هذه الكارثة الجيوسياسية والمحنة الإنسانية، وتخلّي الغرب عن مسؤولياته تجاهها منذ إنهاء فرنسا عملية «سانغاريس» في أواخر عام 2016، فاجأ رئيس أفريقيا الوسطى، فوستين أرشانج تواديرا، الجميع بطلب المساعدة من روسيا. وخلال اجتماع في سوتشي في تشرين الأول 2017 بين وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، وتواديرا، تمّ التوقيع على اتفاقية عسكرية تنصّ على التبرّع بالأسلحة وبرنامج تدريبي للقوات المسلحة بين الطرفين، لتعزّز موسكو، بشكل قانوني وسريع، وجودها في هذه الجمهورية. كانت تلك مفاجأة كبرى للدول الغربية التي لم تكن تتوقّع مثل هذا التحوّل، فيما «إيكواس»، التي كانت تتدخّل في كلّ شاردة وواردة في المنطقة لم تحرّك ساكناً، علماً أن أفريقيا الوسطى، التي ليست عضواً في المجموعة، مجاورة للكاميرون، أحد أعضائها المؤسّسين، والتي تعاني هي الأخرى حرباً أهلية. هكذا، شكّلت الحالة الوسط أفريقية مفتاحاً للتمدّد الروسي في المنطقة، لا يمكن من دون التوقّف عنده فهم الهيجان الغربي الحالي إزاء الانقلاب النيجيري. إذ إن هذا الأخير يكمل سلسلة التغيّرات الزلزالية التي تشهدها منطقة الساحل الأفريقي منذ إسقاط النظام الليبي عام 2011، وانعكاساته على انتشار الإرهاب والجريمة المنظمة وتهريب السلاح والمخدرات، ناهيك عن الهجرة غير الشرعية التي حوّلت البحر الأبيض المتوسط إلى أكبر مقبرة في العالم.
تدرك الولايات المتحدة مفصلية هذا الحدث الذي قد يخرجها تماماً من المنطقة


لعلّ هرولة فيكتوريا نولاند إلى نيامي للضغط على حكام النيجر الجدد وتهديدهم بأوخم العواقب إذا لم يرضخوا ويتراجعوا مقابل ضمانات شخصية، إن كانت تدلّ على شيء، فعلى إدراك الولايات المتحدة مفصلية هذا الحدث الذي قد يخرجها تماماً من المنطقة ويغلق قواعدها في هذا البلد الشاسع والغني بإمكاناته وثرواته النفطية والمعدنية، التي بدأت الصين تعمل على تنميتها من خلال مشاريع متعدّدة، آخرها أنبوب النفط الذي ينطلق من حقول النفط في أغادم في النيجر ويجتاز بينن حتى كوتونو على المحيط الأطلسي بعد أن يقطع 2000 كلم، وتموّله بكين بكلفة 4.5 مليارات دولار، على أن ينجَز خلال أشهر قليلة ويدرّ على النيجر عوائد تُقدَّر بستة مليارات دولار سنوياً. إلى جانب ذلك، يجري التخطيط لأنبوب غاز طوله 4128 كلم، ينطلق من نيجيريا ويمرّ عبر النيجر وينتهي في الجزائر ومنها إلى أوروبا، فيما سيكون للصين دور أساسي في بنائه. وإذا كانت معارضة الجزائر «القاطعة والنهائية» للتدخّل العسكري في النيجر، على حدّ تعبير الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، نابعة من عقيدتها الاستراتيجية التقليدية، فإن المصالح الاقتصادية تفرض هي الأخرى نفسها على الجزائر والصين اللتين وقّعتا أخيراً على شراكة استراتيجية جديدة، وعلى استثمارات صينية بـ37 مليار دولار، تُمكّن الجزائر من تحويل نفسها إلى قاعدة انطلاق صناعية وتجارية وزراعية نحو أفريقيا. أمّا نيجيريا، وهي شريك سياسي وتجاري تاريخي لكلّ من الجزائر والصين، فستكون مضطرّة بحكم ذلك للجم تهوّرها المعلَن نحو الحرب.
عندما جاءت نولاند، مهندسة الانقلاب الأوكراني عام 2014، إلى نيامي، ملوّحةً بالتهديد بغزو تأديبي تقوده نيجيريا، لاقت هذه التهويلات أذناً صمّاء لدى قادة النيجر الجدد، الذين يدركون جيّداً مخاطر مثل هذه الحملة التأديبية على الاستقرار الداخلي في نيجيريا نفسها. إذ إن جيش النيجر، المتمرّس في محاربة الإرهاب، كان له الفضل الكبير في لجم «بوكو حرام»، فيما البلدان يتشاركان في العديد من الانتماءات العرقية (الهوسا) والدينية، ناهيك عن التبادلات التجارية وعلاقات التصاهر. ومن هنا، تُفهَم معارضة النيجيريين المتزايدة لمشاركة بلادهم في عملية مسلّحة ضدّ النيجر، والتي تجلّيها دعوة أعضاء مجلس الشيوخ وأحزاب المعارضة والمتديّنين وقادة الرأي، الرئيس بولا تينوبو و«إكواس»، إلى التروّي وتفضيل الحوار على الدخول في مغامرة غير محسوبة النتائج وعدم الانجرار وراء الولايات المتحدة وفرنسا. كذلك، فإن تشاد أعلنت بوضوح رفضها الحرب، ولكن من دون أن تنضمّ إلى مالي وبوركينا فاسو في تضامنهما المطلق مع انقلابيّي النيجر.
لدى عودتها إلى واشنطن من نيامي صفراء الوجه خالية الوفاض، بعدما رفض تشياني الاجتماع بها ولم يسمح لها بلقاء بازوم، اعترفت نولاند ضمنياً بأن ما يؤرّق الولايات المتحدة فعلاً ليس الديموقراطية أو احترام الدستور، وإنما شبح «فاغنر» الروسي الذي يحوم في المنطقة، مؤذناً بطرد الاستعمار القديم - الجديد منها. ومن هنا، جاء تحذيرها لقادة الانقلاب في النيجر من «الاقتداء بدول الجوار في التعاون مع فاغنر». هل تتحقّق فعلاً مخاوفها؟ هل تتحوّل النيجر إلى ليبيا جديدة؟ مهما كان السيناريو الذي سيُكتب، فمن الواضح أن نهايته ستتجاوز النيجر، لترسم مستقبل النظام العالمي الجديد وإرهاصاته في القارة السوداء بكاملها، وهو ما سيكون بالضرورة مكملاً لذلك السيناريو التي تجري أحداثه الآن في أوكرانيا.
في خطاب شهير له في السنغال، قال الرئيس الأسبق، نيكولا ساركوزي، إن «أفريقيا لم تدخل بعد التاريخ». كان حرياً به اليوم أن يعلن أن «فرنسا قد خرجت بدورها من التاريخ». هذا على الأقلّ ما أعلنته مجموعة يمينية من أعضاء مجلس الشيوخ الفرنسي في رسالة مفتوحة إلى رئيس الجمهورية، إيمانويل ماكرون، بعد آخر هزيمة لفرنسا في النيجر، بالقول: «باتت فرنسا محكوماً عليها بالامّحاء من أفريقيا لتحلّ محلّها روسيا عسكرياً، والصين اقتصادياً، وأميركا ديبلوماسياً».

* رئيس تحرير مجلة «2A magazine»