للمرّة الثانية في غضون ثلاث سنوات ونصف سنة، يتّجه مجلس النواب الأميركي، الذي يحتلّ نصف السلطة التشريعية في الولايات المتحدة، نحو إطلاق إجراءات عزل تستهدف، هذه المرّة، الرئيس الحالي، جو بايدن، للبحث عن أدلّة - لم يُعثر عليها إلى الآن - تُثبت أنه استفاد من صفقات مشبوهة عَقَدها ابنه، هانتر، في أوكرانيا والصين وغيرهما، عندما كان والده نائباً للرئيس باراك أوباما بين عامَي 2009 و2017. وستكون تلك الحالة الرابعة في تاريخ الولايات المتحدة، التي يواجِه فيها رئيس أميركي احتمال إقصائه من منصبه من طريق محاكمة العزل، لينضمّ إلى كلّ من: أندرو جونسون (1868)، بيل كلينتون (1998)، ودونالد ترامب (2019، و2021)، فيما فضّل ريتشارد نيكسون، عام 1974، الاستقالة، بدلاً من إقالته في الكونغرس على خلفية فضيحة «ووترغيت». وإذا كانت إجراءات العزل بدءاً من أندرو جونسون، مسيّسة، والحال هذه، إلّا أن المؤرّخة الرئاسية، باربرا بيري، تقول إنها «أصبحت أمراً روتينيّاً في القرن الحادي والعشرين»، علماً أن الدستور الأميركي ينصّ على العزل (Impeachment) في حالات «الخيانة أو غير ذلك من الجرائم والجنح الكبرى». ووفق الدستور أيضاً، يقود عزل الرئيس في مجلس النواب (المعادِل سياسيّاً لتوجيه اتهامات جنائية) إلى «محاكمة» يشرف عليها مجلس الشيوخ، في عملية على مرحلتَين: في الأولى، يُجري أعضاء «النواب» تصويتاً بغالبية بسيطة على مواد العزل التي تفصّل التهم الموجهة إلى الرئيس؛ وفي حال إقرارها، يُحاكِم «الشيوخ» الرئيس من طريق تصويت أعضائه البالغ عددهم 100 على كلّ مادة. غير أن الإدانة تتطلّب غالبية الثلثَين، ليكون العزل تلقائيّاً ونهائيّاً، وإلّا، يُصار إلى تبرئة الرئيس، علماً أنّ أيّ رئيس أميركي لم يُقَل من منصبه جرّاء عزله، وهو ما يمكن أن ينسحب على حالة بايدن الذي يهيمن حزبه «الديموقراطي» على الغرفة الثانية في الكونغرس.
وإذا كان من دلالة على أن «معارك العزل» مسيّسة، يمكن النظر في قضيتَي جونسون وترامب باعتبارهما متشابهتَين إلى حدٍّ بعيد؛ إذ واجه الأول إجراءات العزل بعدما انتهك قانوناً (أُلغي لاحقاً في عام 1887)، يُعرف باسم «قانون شغل الوظائف» (تقرَّر، استناداً إليه، منْع الرؤساء من إقصاء مسؤولين عُيّنوا من قِبَل الكونغرس من دون موافقة الأخير أوّلاً). وفي حين شكّل هذا القانون أساس المحاكمة، شكليّاً، كان مفهوماً آنذاك وجود عوامل أخرى تدفع في اتّجاه التخلُّص من جونسون، مثلما فُهِم - في حالة ترامب - أن منْع تحويل المعونة المالية إلى أوكرانيا، ليس السبب وراء محاكمته، وكما يُفهم الآن أن «هفوات» هانتر الابن ليست - فعليّاً - في صلْب محاكمة بايدن. وعن ذلك، كتب نائب الرئيس السابق، مايك بنس، مقالةً افتتاحية في صحيفة «وول ستريت جورنال» (2019)، أجرى فيها مقارنةً ما بين محاكمتَي عزل جونسون وترامب، وفيها شخّص المحاكمتَين باعتبارهما عمليّتَي «عزل محازبِتَين»، بسبب «اختلاف في السياسات»، معتبراً أن مؤيّدي إقصاء الرئيس قد «أنقصوا من قدْر عمليّة العزل».
يأتي التحقيق في توقيت تسجّل فيه شعبية بايدن تراجعاً قبل عام من مواجهة يُرجَّح أن يخوضها مجدّداً مع ترامب


على أن قضيّة العزل المرتقب إطلاقها ضدّ بايدن، تختلف عن سابقاتها، «ولا تشبه أيّ محاولة أخرى شهدناها في التاريخ الأميركي»، وفق ما يوضح أستاذ القانون الدستوري في كلية الحقوق في جامعة نورث كارولينا، مايكل غيرهارت، لأنه «في الماضي، كانت هناك دائماً بعض الأدلّة على ارتكاب الرئيس مخالفات. ولكن في هذه الحالة (بايدن)، ليس لدينا أيّ دليل موثوق. تشبه هذه العمليّة ما يسمّى أحياناً برحلة صيد». وفي غياب الأدلّة الدامغة، رضخ رئيس مجلس النواب، كيفن ماكارثي، لضغوط الجناح اليميني في حزبه الجمهوري، معلناً موافقته على بدء إجراءات ترمي إلى عزل الرئيس، معلّلاً قراره بالإشارة إلى أن «العثور على الأدلّة هو الهدف من التحقيق». وبايدن متّهم من قِبَل «جمهوريّي» المجلس النيابي، بـ«الكذب» على الشعب الأميركي، في شأن تورّطه في قضايا نجله، هانتر، المتّهم، بدوره، بعقد صفقات مشبوهة في أوكرانيا والصين، بالاستفادة من نفوذ والده الذي كان، في حينه، نائباً للرئيس أوباما، علماً أن أيّ اتّهام لم يوجّه إليه على صلة بتعاملاته التجارية، كما لم يبرز أيّ دليل على ضلوع والده في أيّ مخالفة. وبينما أقام هانتر بايدن علاقات تجارية في الصين وكازاخستان ورومانيا وغيرها، ركّز إعلان ماكارثي المرتبط بالتحقيق على تعاملاته مع شركة الطاقة الأوكرانية، «بوريسما»، التي تولّى هانتر منصباً مدرّاً للمال في مجلس إدارتها، مطلع عام 2014، عندما كان والده نائباً للرئيس ومشرفاً على سياسة الولايات المتحدة تجاه كييف. وعلى رغم أن بايدن الابن خرّيج كليّة القانون في جامعة «يال»، ويملك بعض الخبرة في مجال الأعمال التجارية والمال، إلّا أنه لم يكن واضحاً ما الذي يمكن أن يضيفه إلى «بوريسما» لقاء أجرٍ قدْره مليون دولار سنوياً.
وفي استعادةٍ لمحاولة عزل ترامب الأولى، وفيما باتت إعادة فوزه بالانتخابات مهدَّدة، أرسل الرئيس الجمهوري محاميه الشخصي، رودي جولياني، إلى كييف، مطلع عام 2019، بحثاً عن معلومات يمكن أن تطيح بفرص منافِسه الرئاسي، بايدن. ولكن جهود المحامي تعثّرت، ليضطرّ ترامب من بعدها إلى تكثيف الضغط على الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، عبر تجميد مساعدات عسكرية لبلاده بقيمة 400 مليون دولار. وفي محادثة هاتفية بينهما، في الـ25 من تموز تحديداً، أشار ترامب إلى الدعم الأميركي، حاضّاً نظيره الأوكراني بقوّة على فتح تحقيق في شأن عائلة بايدن وإعلان نتائجه، ليصبح هذا الاتصال أساس أوّل عملية عزل للرئيس السابق، على اعتبار أنه التمس، بشكل غير شرعي، تدخُّلاً خارجيّاً في الانتخابات الأميركية المقبلة التي خسرها في نهاية المطاف أمام بايدن. وبعد مضيّ أربع سنوات على واقعة العزل الأولى، تحرّك «الجمهوريون» لعزل الرئيس الحالي، لأن لديهم، كما يقولون، المعلومات التي كان يسعى وراءها ترامب في كييف. ولكن، بينما كانت تصرّفات ترامب التي دعمت الاتجاه إلى محاكمته موثّقة، فإن «الديموقراطيين» وحتى بعض «الجمهوريين» يصرّون على أن رئيس «لجنة الإشراف» التابعة لمجلس النواب، جيمس كومر (وهو من بين الجمهوريين الذين يقودون التحقيق)، لا يملك أدلّة على ارتكاب بايدن مخالفات. ويتّهم كومر «عائلة بايدن» - من دون ذكر اسم الرئيس - و«أعوانها» بالحصول على دفعات يتجاوز قدْرها 20 مليون دولار من كيانات خارجية. وأفادت اللجنة أيضاً أن التحقيق ينظر في «استغلال نفوذ» من قِبَل مَن يسمّيها ترامب على الدوام «عائلة بايدن الإجرامية»، وأنه «يكشف أن جو بايدن سمح لعائلته بتسويقه كعلامة تجارية حول العالم لإثراء عائلته».
ويأتي التحقيق في توقيت تسجّل فيه شعبية بايدن تراجعاً قبل عام من مواجهة يُرجَّح أن يخوضها مجدّداً مع خصمه الجمهوري، ترامب، علماً أنه لا يزال متقدّماً على منافسه (المحتمل) بنسبة واحد في المئة (47% مقابل 46%)، بحسب استطلاع جديد لجامعة كوينيبياك، أَظهر أن نصف الناخبين يعتقدون أن بايدن متورّط في تعاملات هانتر التجارية. بدورهم، يرى «الديموقراطيون» أن أيّ تحقيق يرمي إلى عزل بايدن، سيفسح المجال أمام ترامب لتحويل مجلس النواب إلى أداة في مسعاه للفوز في انتخابات 2024 الرئاسية، فضلاً عن أنه سيصرف الأنظار عن المشكلات القانونية الهائلة التي تثقل كاهل الزعيم «الجمهوري»، ويمكن أن يشوّه أيضاً صورة بايدن كـ«شخصية مستقيمة».