تحمل زيارة رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، للولايات المتحدة، ولقاءاته بزعماء دول ورؤساء وفود، وفي مقدّمتهم الرئيس الأميركي، جو بايدن، كثيراً من الفوائد في الشكل وفي العلاقات العامة، مقابل فائدة محدودة في المضمون. وإذا قيل الكثير عن لقاء بايدن - نتنياهو، الذي غلّب هذه المرة خطابه التحريضي المعتاد من على منبر الأمم المتحدة ضدّ إيران وتعاظم قدراتها، إلا أنه يبقى لقاء الضرورة الذي دفعت بايدن إليه، ديناميكيات الساحة الداخلية في الولايات المتحدة، لتنتج قراراً رئاسياً «مُنَّ» به على نتنياهو، وإن كان الأخير يطمح إلى أكثر من لقاء بروتوكولي جاء على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة. وللقاء المذكور ثلاثة أبعاد: بُعد الساحة الداخلية الإسرائيلية، وتلك الأميركية، بالإضافة إلى البعد الإقليمي حيث تتّسم المصالح بين الجانبين بالتداخل والتجاذب، كما التباين وحتى الخلاف. إلا أن الزيارة نفسها لم تسجّل أي تغيير في الأبعاد المذكورة، إلى حدّ أن ما بعدها يبدو مثيلاً لما سبقها، وإن كان بإمكان نتنياهو أن يتحدث عن نقيض ذلك.في البعد الداخلي الإسرائيلي، جاء اللقاء بعد تسعة أشهر من تولّي نتنياهو السلطة في تل أبيب، على رغم أن العرف المتّبَع بين الجانبين يقضي باللقاء فور تولي رئيس الحكومة الإسرائيلية السلطة، في سياق تجديد الإعلان عن ترسّخ العلاقات وثباتها، فيما باتت هكذا لقاءات جزءاً لا يتجزأ من بروتوكولات غير منصوص عليها في إسرائيل بالنسبة إلى أيّ رئيس حكومة جديد. ولم يقتصر نقض العرف على الجانب الزمني فحسب، بل وطاول أيضاً الجانب المكاني مع دلالته الخاصة، حيث انعقد اللقاء في نيويورك على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، في إطار ما يُسمى اللقاءات الجانبية لرؤساء الوفود، بينما العرف ينصّ على أن يجري اللقاء في واشنطن، أي في البيت الأبيض، ضمن احتفالية وتصريحات تشدد على الشراكة والتعاضد بين الجانبين. وعلى هذه الخلفية، جاءت قراءة الاجتماع في الساحة الداخلية الإسرائيلية، متساوقة والأزمة السياسية الاجتماعية في الكيان: مؤيدو الائتلاف الحكومي يزعمون أن الزيارة جاءت لتؤكد أن الوضع الداخلي لا يؤثر في علاقات إسرائيل مع الولايات المتحدة، وتشير إلى أنه لا تغيير في الموقف الفعلي للإدارة الأميركية إزاءها، برغم مواقفها اليمينية المتشددة، في زعمٍ يسجّل مزيداً من التشدد والتطرف، بلا أثمان فعلية. وفي المقابل، يشدّد معارضو الحكومة على أن اللقاء، بزمانه ومكانه، دليلٌ على مواصلة تعمّق الخلاف بين إسرائيل والولايات المتحدة، وتأثيره سلباً على مصالح الدولة العبرية، وحدّه من قدرتها على مواجهة التهديدات، سواء في الداخل أو في الخارج. وبحسب المعارضين، يؤكد الاجتماع، كما انعقد، على العمق الجوهري للخلاف غير العابر، وهو ما يتحمّل مسؤوليته بحسبهم نتنياهو وشركاؤه.
لا يجب الخلط بين تردّي العلاقة الشخصية بين نتنياهو وبايدن، وسحبها على العلاقات بين تل أبيب وواشنطن


أما في البعد الداخلي الأميركي، فيظهر اللقاء في زمانه ومكانه ومضمون ما يتسرّب منه أميركياً، أنه جاء بعد دراسة إمكان تأثير رفضه لفترة طويلة جداً على الساحة الداخلية في الولايات المتحدة، خصوصاً أن تأخيراً مثل هذا قد يكون له تأثيره على أمن الدولة العبرية، والذي يُعد في واشنطن، لدى الحزبين، خطاً أحمر يتعذّر تجاوزه. وبالطبع، لن يؤثر اللقاء على فرص بايدن في تجديد ولايته، كما لن يؤثر في أصوات الناخبين اليهود، إذ إن تأييد بايدن أو أي مرشح «ديموقراطي»، يصل إلى أكثر من 75% في أوساط أولئك الناخبين، مع تأييد مماثل في القطاعَين الاقتصادي والإعلامي. لكن في حال كان بايدن رفض لقاء نتنياهو، ولو في الأمم المتحدة، فذلك يُعدّ ضغطاً زائداً عن حدّه، وقد يؤدي إلى أضرار أكثر من الفائدة المتوخّاة من القطيعة نفسها.
إقليمياً، لا تأثير للقاء على أيّ من الملفات، إذ إن أيّاً منها لا ينتظر لقاء بين بايدن ونتنياهو لتذليل عقباته أو تحسين فرص إنجازه، فالملفات الإقليمية تُدار ويجري التخطيط والتنفيذ فيها، وفقاً لاتفاقات ولقاءات مهنية واختصاصية سياسياً. وبالمثل، لا تأثير فعلياً للقطيعة بين رأسَي الهرم السياسي في تل أبيب وواشنطن، على المستويَين العسكري والأمني. ومن ناحية إسرائيل، أهم ما في الملفات الإقليمية يتمثّل في اثنين: إيران وتعاظم قدراتها وتحسّن مكانتها إقليمياً ودولياً، ومسار التطبيع مع السعودية، وهما ملفان لن يتأثرا، سلباً أم إيجاباً، بانعقاد اللقاء من عدمه.
وكما يرد في التسريبات، كان اللقاء صريحاً، والصراحة تعني أنه كاد يخلو من المجاملات وأن الأشياء قيلت كما هي: لدى بايدن سلة من المطالب، يريد من نتنياهو أن يبادر إلى تحقيقها، ليس في الساحة الإقليمية فحسب، بل وأيضاً في الداخل الإسرائيلي، سواء بشأن الأزمة السياسية التي تعدّ الإدارة نفسها طرفاً مؤيداً للمعارضة فيها، أو تجاه الفلسطينيين، مع السعي إلى تلبية جزء من المطالب السعودية للدفع قدماً بملف التطبيع معها، ومن ثم الائتلاف الإقليمي بين الحلفاء، للتعويض عن الانكفاء الأميركي في المنطقة. لكن كما يتبين، نتنياهو لا يريد، وهو أيضاً لا يقوى، على تلبية أيّ من المطالب الأميركية، حتى الرمزية منها، لعدم قدرته على مواجهة حلفائه، وهو يكتفي باللقاء الشكلي مع بايدن ليتحدث عن إنجازاته في الخارج. وفي المقابل، يكتفي بايدن بأنه لم يدفع القطيعة إلى حد كبير يضرّه داخلياً، فيما لا تسجّل الملفات المذكورة أي تقدّم ملموس، والحديث عنها يقتصر على لزوم الضرورات في البيانات الختامية للقاءات التي تجمع المسؤولين الإسرائيليين بنظرائهم الأميركيين.
في كلّ الأحوال، لا يجب سحب تردّي العلاقة الشخصية بين نتنياهو وبايدن، على العلاقات بين «الدولتين»، فالخلاف الشخصي شيء، والعلاقات ومتانتها شيء آخر، ومن يبني على الأول تحليلات ومواقف وأفعالاً، لا بدّ أن يخطئ.