تُوّجت أشهر من العداء البينيّ، داخل الحزب الجمهوري، بخلْع رئيس مجلس النواب، الجمهوري كيفن ماكارثي، الذي خاض صراعاً «ملحميّاً» مع الصقور في حزبه استدعى 15 جلسة تصويت لتثبيته في موقعه، وحَمَله على منحهم وعوداً بدت أقرب إلى «الارتهان»، فيما لم تحتج إطاحته إلى أكثر من جلسة تصويت واحدة، ومذكّرة حجب تقدَّم بها نائب عنهم، هو مات غيتس. وإذا كانت أحداث الثلاثاء، تشكّل سابقةً هي الأولى من نوعها في تاريخ الولايات المتحدة، والكونغرس، غير أن استبعاد ماكارثي (بغالبية 216 صوتاً مقابل 210، 8 منهم فقط جمهوريين) لم يكن مفاجئاً، فالصفقة التي جاءت به رئيساً للمجلس، في كانون الثاني الماضي، ظلّت مشروطة، وفق الاتفاق الذي عقده مع زملائه من اليمين الموالي لدونالد ترامب، باحتمال إطاحته متى خالف القواعد الناظمة للعلاقة بينهما. ومع ذلك، استعجل الرئيس السابق لمجلس النواب، بعد طرْح المذكّرة، الذهاب إلى التصويت عليها، ظنّاً منه بأن الديموقراطيين الذين أَبرم معهم للتوّ صفقة تمرير الموازنة لتفادي الإغلاق الحكومي - والتي شكّلت بدورها الدافع الرئيسي وراء عزله -، سيهبّون لنجدته، لكنهم لم يفعلوا، علماً أن صقور «الجمهوري» كانوا قد هدّدوا بـ«التسبُّب في تخلُّف كارثي» عن سداد ديون الولايات المتحدة، ما كان من شأنه أن يلقي بالاقتصاد الأميركي في أتون الفوضى، ويتسبّب استتباعاً في حالة ذعر على المستوى العالمي.وفي لغة الأرقام، يعني السياق المتقدّم، أن عزْل ماكارثي حُسم على يد الحزب الديموقراطي، الذي صوّت نوابه جميعهم لمصلحة إطاحته، ربّما انتقاماً منهم لإعلانه إطلاق إجراءات عزْل تستهدف الرئيس جو بايدن، المتّهم من جانب الجمهوريين بالاستفادة من صفقات مشبوهة عَقَدها ابنه، هانتر، في أوكرانيا والصين وغيرهما، عندما كان والده نائباً للرئيس باراك أوباما، وكونه «ليس محلّ ثقة»، في نظر حزب الرئيس. ووسط تراكُم حالة الاحتقان الحزبي الذي لا يفتأ يتصاعد، منذ الانتخابات الرئاسية لعام 2020، والتي لا يزال فوز بايدن فيها محلّ جدلٍ بالنسبة إلى قسم معتبَر من الجمهوريين، يبدو أن السعي إلى تحييد ماكارثي مثّل نقطة التقاء بين الخصمَين اللدودَين. أمّا المشترك بينهما، وفقاً للنائب مات غايتس، «فهو أن ماكارثي قال شيئاً لنا جميعاً في وقت ما، ولم يفعله». ولكن تصويت الحزب الديموقراطي لمصلحة عزْل ماكارثي، يتّصل أولاً وأساساً بحساباته الانتخابية، خصوصاً بعدما ترك الصراع المتفاقم داخل «الجمهوري»، الحزبَ في حالة تشظٍّ لم يسبق لها مثيل. ولهذا تحديداً، يمكن عزو قرار الديموقراطيين التصويت إلى جانب اليمين، أيضاً، إلى رغبتهم في إظهار حجم الانقسام والخلافات اللذين يُغرقَان الجمهوريين، وهو ما تجلّى خصوصاً في سؤال ترامب: «لماذا الجمهوريون منقسمون دائماً، بدلاً من مواجهة اليسار الديموقراطي الذي يدمّر الولايات المتحدة؟». وإذا كان يمكن لحزب الرئيس أن يهبّ لإنقاذ ماكارثي، في ظلّ تصويت 8 جمهوريين فقط لمصلحة عزله، فإن الديموقراطيين أكدوا أنهم «لن يساعدوا الجمهوريين على حلّ مشكلاتهم»، وفقاً لما جاء على لسان النائبة التقدمية، ألكسندريا أوكاسيو كورتيز، فيما أبدى زعيم الأقلية الديموقراطية في المجلس، حكيم جيفريز، عدم استعداده «لتقديم الأصوات اللازمة لإنقاذ ماكارثي».
ربّما يتساءل ماكارثي سرّاً عن السبب وراء عدم وصول المساعدة من جهة أخرى، أي ترامب


ولا شكّ في أن الأحداث الأخيرة التي جرت تحت قبّة الكونغرس، من شأنها أن تضرّ بالحزب الجمهوري، ولا سيما جناحه التقليدي، في ظلّ حالة من التململ تسود أوساط الناخبين الذين بدأوا يفقدون الثقة بقيادتهم، فضلاً عن أن إحكام ترامب - كما هو ظاهر - قبضته على الحزب، تدفع الأخير أكثر في اتّجاه اليمين، على حساب الجناح التقليدي، ما يمكنه أيضاً أن يؤدّي إلى مضاعفة ضغوطه لانتخاب رئيس جديد لمجلس النواب، أكثر تحفّظاً من ماكارثي، وما يسبّبه ذلك من مشكلة لأعضاء مجلس النواب الجمهوريين الذين يمثّلون بعض الولايات المتأرجحة المعتدلة. ولأن مدة شغور المنصب قد تمتدّ لأشهر (وربّما أقلّ)، يتّجه مجلس النواب، في الـ17 من تشرين الثاني المقبل، إلى إجراء تصويت جديد حول تمديد الإنفاق. وفي حال لم يتمّ الاتفاق على انتخاب رئيس للمجلس خلفاً لماكارثي، فإن الحكومة ستكون معرّضة للإغلاق، وتلك مقامرة ترتبط بمصير ملايين الأميركيين، وقد تقود إلى فوضى عارمة، ومجازفة سياسية في حقّ الحزب الديموقراطي أيضاً.
على أن ماكارثي لم يكن هو الآخر معتدلاً، ولم يفعل كثيراً لضبط تحوُّل حزبه إلى الصورة التي أصبح عليها، فيما جاءت هزيمته على أيدي المتطرّفين، الذين اشتكى، الأسبوع الماضي، من أنهم يريدون «إحراق المكان بأكمله». أطاح زملاء ماكارثي بزعيمهم، من دون أيّ خطّة لِما سيأتي بعد ذلك، ما أدى إلى إصابة جناح بالغ الأهميّة في الحكومة الأميركية بالشلل. أيضاً، ستعيق الفوضى التي أحدثها الحزب الجمهوري جهوده للاستفادة من ضعف بايدن المتراجعة حظوظه، وقد يؤدّي الاستعراض الجديد إلى عرقلة محاولات «الجمهوري» الاحتفاظ بالمقاعد المتأرجحة التي يحتاجها للحفاظ على غالبيته في أحد مجلسَي الكونغرس في انتخابات العام المقبل. والأهمّ ممّا تَقدّم أن «المقتلة السياسية»، كما وصفتها «سي إن إن»، التي وقعت الثلاثاء، أظَهرت أن الغالبية في مجلس النواب غير قادرة على العمل، وأن الحزب الجمهوري بات خارجاً عن السيطرة. وإلى أن يتغيّر هذا الواقع، فإن أميركا نفسها ستظلّ غير قابلة للحُكم.
ربّما يتساءل ماكارثي سرّاً عن السبب وراء عدم وصول المساعدة من جهة أخرى، أي ترامب؛ فالأخير، الذي أشار إلى الرئيس السابق لمجلس النواب ذات مرّة بـ»ماي كيفن»، نأى بنفسه عمّا يجري؛ علماً أن موافقة ماكارثي على إطلاق إجراءات تهدف إلى عزل بايدن، كانت في جزء منها محاولة للتخفيف من آثار محاولتَي عزل ترامب، والمحاكمات الجنائية الأربع التي يواجهها الرئيس السابق، قبل الانتخابات. ومع ذلك، لم يحرّك ترامب ساكناً لإنقاذ ماكارثي، ما يثبت مرّة أخرى أنه مع الرئيس السابق، عادةً ما يتدفّق الولاء في اتّجاه واحد فقط.