مع بدء عمليّة الاقتراع في الانتخابات الروسية، شنّ الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، هجوماً كلاميّاً (شرساً) على الرئيس الروسي، المرشّح لولايةٍ خامسة مؤكّدة، فلاديمير بوتين. استحضر ماكرون لغة غابت عن الشأن الأوكراني منذ اتّضح أن هزيمة الجيش الأوكراني وكتائبه المجاهرة بنازيّتها باتت وشيكة. ماكرون، الذي شهدت ولايته أفول الهيمنة الفرنسية عن الساحل الأفريقي، والذي فقد خلالها وزراء وسفراء وقادة مخابرات بلاده «المَونة» على سياسيّي بلد متوسطي صغير كان يرى في فرنسا أمّاً حنوناً، تحدّث بكلامٍ كبيرٍ عن ضرورة هزيمة بوتين عسكرياً، ولو تطلّب ذلك إرسال جيوشٍ أوروبية للقتال على الجبهات «لأن أمن أوروبا على المحكّ». طبعاً عندما يتحدّث ماكرون عن أوروبا، فهو يعني غرب القارة، وفرنسا هي أقصى هذا الغرب؛ إذ تحدّها من الغرب مياه شمال الأطلسي. الحماسة الماكرونية لتوسيع الحرب على روسيا تضمحلّ كلما اقتربت نحو الحدود الشرقية لـ«حلف شمال الأطلسي». وبالمناسبة، يجتمع ماكرون عشية انتخابات الكرملين بقادة الدول «الأطلسية» الأقرب إلى جبهات القتال. المستشار الألماني، أولاف شولتز، على خلاف علنيّ مع ماكرون منذ أسابيع في ما يخصّ حرب أوكرانيا، ورئيس الوزراء البولندي، دونالد تاسك، «فايت بالصلحة». عتب الألماني على الفرنسي هو أن الأخير يكثر الكلام لتأجيج الصراع، ولا يُتبع هذا الضجيج بأي مساهمة فعلية على أرض الميدان. الميدان متروك للمحكومين به جغرافيّاً، وتبعد باريس أضعاف ما تبعده وارسو عن كييف.في الولايات المتحدة، ترامب راجع. لا داعي لقول المزيد.
هذا هو مشهد أعداء بوتين الخارجيين عشيّة تجديد البيعة. أمّا داخليّاً، فخصوم بوتين، لسبب أو لآخر، لا يعمِّرون كثيراً. القدر يتدخّل عبر موت مفاجئ هنا أو أعطال طارئة في طائرة هناك، ويحيّد أي احتمال لزعزعة العرش. فماذا يعني أن يبدأ بوتين رئاسته الخامسة مرتاحاً نسبياً مقارنة بولاياته الأربع السابقة؟ هذا إذا ما سلّمنا جدلاً بأنه لم يكن الآمر الناهي خلال ولاية ديمتري ميدفيديف، حين شغل منصب رئيس الوزراء كون الدستور يومها كان يحدّ ولايات الرئيس باثنتين. لكن الدستور تكيّف وتأقلم مع الواقع، أو بالأحرى ذاك الدستور أيضاً صادفته أعطال طارئة مميتة أدّت إلى استبداله.
يُجمِع إعلام حلف «الناتو» على أن بوتين المتجدّد سيكون أكثر «جنوناً» و«تهوّراً» و«إجراماً»، وهذا ليس مستغرباً ممّن أمضوا السنتين الماضيتين في محاولة إقناع شعوبهم بأن أدولف هتلر ليس بسوء فلاديمير بوتين. طبعاً، هؤلاء ينعتون أبطال المقاومة بالإرهابيين، فتصنيفاتهم لا تعني شيئاً. تاريخ بوتين الطويل في الحكم لا يعكس جنوناً أو تهوّراً. في مقابلته الشهيرة قبل شهر مع الإعلامي الأميركي «الترامبي» الهوى، تاكر كارلسون، سرد بوتين بتأنٍّ تاريخ روسيا منذ القرن التاسع للميلاد حتى اليوم ليشرح أسباب الغزو لأوكرانيا، والذي أثبت أنه كان وليد سنين من التخطيط والتحضير. إن كان هناك من متهوّرين في اتّخاذ قرارات الحرب، فلا أحد يتفوّق على دول «الناتو» ومن يدور في فلكها. قد لا يوقف بوتين الحرب قبل انصياع كييف، لكنه حتماً لن يزحف إلى باريس، فالطريق إلى باريس فيها أكثر من باخموت التي عانى الجيش الروسي، وقوات «فاغنر» بقيادة المرحوم يفغيني بريغوجين، الأمرّين لإسقاطها. أمّا مصالح باريس في المستعمرات فهذا أمرٌ آخر، وهذا ما يخيف ماكرون ويدفعه إلى التضحية بأوكرانيا أخرى لإضعاف «نظام بوتين الذي هو غريم لفرنسا» حسب قوله. لن يشعل الرئيس الروسي حرباً على أراضي (غرب) أوروبا، لكنه لن ينسى ما فعله «الناتو» ضده في أوكرانيا، والردّ قادم في ولايته الخامسة، والسادسة، والسابعة، في حال حالفه الحظ في صناديق الاقتراع الديموقراطية، طبعاً.