بعد نجاح الثورة الإسلامية الإيرانية (1979)، أصبحت إيران الشغل الشاغل للمملكة العربية السعودية لسببين مباشرين: الأوّل هو خوف السعودية من تصدير الثورة إلى الدول العربيّة والإسلاميّة (وهو شعار رفعته إيران الخميني في بداياتها، ثمّ تراجعت عنه، ربما علناً لأنّه أخاف الغرب والعرب معاً، والسعودية بخاصة التي خافت على فقدان دورها الإقليمي والعالمي في زعامة العالم الإسلامي والعربي، وخافت أن تؤثر الثورة في استقرار المملكة من ناحية أنّها ثورة شعبية، بينما نظام الحكم قائم في المملكة على العائلة المالكة)، والسبب الثاني المباشر هو للأسف مذهبي، لأنّ إيران تعتمد المذهب الإسلامي الشيعيّ، بينما تتبع السعوديّة المذهب السنّي المعتمد على الفكر الوهّابي المتزمّت والمتطرّف في بعض المواقف.
وفي هذا الجو المتلبّد بالعداء والتوتّر، اعتمدت إيران الثورة في البدايات شعارات ذات عناوين إسلامية كي تبعد الثورة عن المذهبيّة، والتعصّب، والتطرّف الديني، مع العلم بأنّ أسباب التباعد والعداء كثيرة، نذكر منها ما يأتي:
1ــ الخليج العربي والخليج الفارسي: التسمية بحد ذاتها مصدر توتّر، فإيران تدّعي أولويّتها على هذا الخليج منذ القدم.
2ــ عداء دينيّ مذهبيّ بين الشيعة الممثّلين حالياً في إيران، والسنّة بزعامة المملكة السعودية.
3ــ صراع نفوذ على العالم الإسلامي والعربي.
4ــ منافسة تجاريّة على بيع البترول، والتجاذب للحصول على أسواق أخرى مثل الصين والهند وغيرهما.
5ــ المملكة السعوديّة تصدر البترول أكثر من إيران عبر مضيق هرمز الذي تهدد إيران بإقفاله في حال تعرضها لأي هجوم من حلفاء أميركا؛ ومنهم السعودية ودول الخليج.
7ــ النفوذ الإيراني المتزايد في العراق وسوريا ولبنان.
8ــ الدعم الإيراني لشيعة البحرين، وللحوثيين في اليمن يخيف السعودية ويثير حفيظتها واستياءها.
9ــ التوتر الدائم في العلاقات بين البلدين بسبب الحج: فالسعودية في خوف دائم من أن ترسل إيران حجاجاً يعكّرون صفو الحجيج، وإيران بالمقابل متحفّظة على الإشراف والهيمنة السعودية على الأماكن الإسلامية المقدّسة مع باكستان وأفغانستان. فتنظيم جند الله يهاجم المواقع الإيرانية شرق البلاد.
إن ذلك لم يُقنع السعوديّين ولم يطمئنهم نتيجة وجود أقليّة شيعية في المملكة تعيش الظلم والقهر، ستعلن الولاء لإيران، وتكون بالتالي حجة لإيران للتدخل في شؤون المملكة الداخلية. هذا الموقف المتخوّف والحذر امتدّ إلى معظم دول الخليج التي توحّدت ضمن إطار مجلس التعاون الخليجي، ودعمت «صدام حسين» في حربه ضدّ إيران (1980)، وأنفقت المليارات بهدف إضعاف الثورة الإيرانية وربما إسقاطها، فلم تسقط، ولم تضعف، بل قويت شوكتها، وتدعّم نظامها، وتوسّع نفوذها.
هذا التوتّر الكبير في العلاقات عُبّر عنه من خلال تكريس تحالفات يقوم بها كلّ طرف في المنطقة على حساب الآخر عن طريق دعم حزب أو رزمة معيّنة في دول المنطقة، وهذا ما حصل في العراق وفلسطين، وفي اليمن والبحرين، وفي لبنان وسوريا، ومرشّح لأن يطال دولاً أخرى في ظلّ هذا العداء الجيوبوليتيكي بين الدول التي يوجد فيها تنوّع طائفيّ ومذهبيّ في قلب صراع ديني، طائفي، مذهبيّ، سيؤدّي إلى تفكّك كلّ هذه الدول وإضعافها لصالح العدو الإسرائيلي...
لماذا إثارة هذا الموضوع الآن؟ لأنّ المنطقة تغلي على فوّهة بركان بسبب التوتر الإيديولوجي والمذهبي القائم بين الطرفين اللذين لهما مصالح سياسية مختلفة، هذا التوتّر سيؤدّي في حال تصاعده أكثر إلى انفجار كبير في المنطقة لن نستطيع الخروج منه بسهولة إلا بعد تقسيم الدول العربية وتفتيتها إلى أقليّات دينيّة وإثنيّة تودي بالأخضر واليابس.
صحيح أن البلدين لا يقيمان أبداً علاقات جيّدة بينهما، فالتباعد والعداء السياسيّ والدينيّ كانا السّمة الغالبة للعلاقات بينهما. والصراع على زعامة العالم الإسلامي، وفي المنطقة خاصة، واضح جداً الآن. ومحاولات التقارب، منذ البداية، وخاصة في عهد رفسنجاني الرئيس الإيراني، والرئيس نجاد، مع المملكة لم تنجح في إرساء علاقات ودّيّة وجيّدة، لأنّ كلّ دولة لها حساباتها الخاصة وجدول أعمال خاص بها. والأمر الذي زاد في حدّة التجاذب، والانقسام بهذا الشكل الواضح وازدياد حالة المناورة والدسّ بين البلدين، بدايات الربيع العربي منذ ثلاث سنوات، وهو الذي بدأ في تونس، وامتدّ إلى دول أخرى؛ منها مصر، وصولاً إلى سوريا، الأمر الذي أخاف الدولتين أيضاً، كلّ حسب مصالحه. فإيران ترى أنّ سقوط نظام بشار الأسد سيرتدّ سلباً عليها وعلى نفوذها في المنطقة، وسيؤدي إلى إضعاف العراق والمقاومة في لبنان، وبالتالي المشروع الاستراتيجي لإيران في العالم.
في المقابل، فإنّ السعوديّة تحاول تأكيد نفوذها من جديد في المنطقة مقابل النفوذ الإيراني عبر التحالفات العربيّة من جديد، وخاصة عبر دعم النظام في مصر، ومن خلال البوابة السوريّة بوصفها رأس حربة في إسقاط النظام السوري من خلال دعم المعارضة بالمال والسلاح، وقد كان لتعليق عضوية سوريا في تشرين الثاني 2012 في جامعة الدول العربية التي تهيمن عليها قطر والسعودية الأثر الكبير في زيادة حالة التوتّر بين المملكة وإيران وإعلان الحرب الباردة بينهما.
ضمن هذا الإطار، دعمت في البداية إيران نظام الإخوان المسلمين في مصر، وحصل تقارب بين الدولتين باسم «الأخوة الإسلامية»، ورأت إيران أنّ ذلك يخفّف حدّة الاحتقان، والتوتّر، وحالة التمذهب الحاصلة بين إيران والعالم الإسلامي والعربي، ويعطي الدور القياديّ للسعودية في المنطقة، وربّما يعود دور للأزهر الشريف بوصفه ممثلاً للإسلام المعتدل في المنطقة. في السياق نفسه، حاولت السعودية تجاوز الخلاف العقائدي والإيديولوجي مع الإخوان المسلمين في مصر ودعت مُرسي إلى زيارتها، وإن على مضض، بعد سقوط حليفها حسني مبارك.
لكن المملكة رأت فرصتها الكبيرة سانحة عندما تمّ إسقاط حكم الإخوان المسلمين في مصر بقيادة اللواء عبد الفتاح السيسي، فقامت بإعلان دعمها المالي والسياسي الكبير للنظام الجديد بتقديم 12 مليار دولار مع بعض دول الخليج الأخرى. من سينجح في هذه اللعبة، لعبة التجاذب والاستقطاب في أجواء الحرب الباردة السائدة بينهما وفي المنطقة؟
يعتقد المراقبون أنّ السعودية ستنجح، وليس إيران في الموضوع المصري لأسباب عديدة، دينية، وسياسيّة، واقتصاديّة وماليّة، كما أنّ حجم مصر ودورها الإقليمي والقومي يدفعان بها إلى البقاء في الحضن العربي وليس في محل آخر.
أمّا في المواضيع الأخرى، فالمملكة السعودية تَعدّ إيران منافساً كبيراً لها، بل عدوّاً لدوداً على الصعيد السياسيّ، والاقتصاديّ، والاستراتيجيّ، والإيديولوجيّ.
وانطلاقاً من التغيرات الحاصلة في المنطقة، أعدت المملكة استراتيجية واضحة وهي مقارعة إيران في كلّ مكان، وفي كلّ بلد لها فيه نفوذ، وقادرة على مواجهة المدّ والنفوذ الإيراني فيه، بالإضافة إلى وقوفها بوجه التقارب الأميركي الإيراني في موضوع الملفّ النوويّ الإيراني لأنها ترى أنّ هذا الملفّ يعطي إيران نفوذاً وهيمنة كبيرين إقليمياً ودولياً.
فدعمت المملكة السعودية المعارضة السورية لإسقاط نظام بشار الأسد، فأصبحت رأس حربة في إسقاط النظام السوري بعد إزاحة قطر عن هذا الملف، ودخلت مباشرة على خط الأزمة السورية من خلال دعم المعارضة مالياً وعسكرياً، فضلاً عن الموافقة على الضربة العسكرية لسوريا، وبعد ذلك الدعم السياسي للائتلاف السوري من خلال انتخاب الجربا المقرّب من السّعودية على رأس هذا الائتلاف. كلّ ذلك كي تقف سدّاً منيعاً في وجه امتداد النفوذ الإيرانيّ في المنطقة، وإضعافه عن طريق إسقاط النظام في سوريا.
وبدأت السعودية تواجه إيران في ملفات أخرى: في البحرين عندما أرسلت قوات عسكرية لدعم النظام ضدّ المعارضة الشيعيّة المدعومة من إيران، وفي اليمن، وهي تقف مواقف متشددة بوجه الاتفاق النووي الإيراني مع الغرب الذي أحدث ما يشبه الزلزال في المنطقة والعالم، وهو الذي سيترك تداعيات على مجمل الاستراتيجية الأميركية الإسرائيلية السعودية التي كانت قائمة على مواجهة إيران وحلفائها. فهل تستطيع السعودية المضيّ وحدها في المواجهة، أو أنّها الحرب الباردة وحروب بالوكالة حسب تعبير نيويورك تايمز والغارديان، وبخاصة في سوريا وبين المحورين؟ إذ منذ اشتعالها كرّست الأزمة السورية هذه الحرب بين المحور السعودي والمحور الإيراني، وأوصلتها إلى الذروة، واشتدت أكثر رعباً لتصبح حروباً بالوكالة في اليمن، والبحرين، ولبنان، وبخاصة أننا ندفع ثمنها خراباً وويلات وحروباً أهلية متنقلة، وشللاً في مؤسسات الدولة لا نعرف حتى الآن إلى أين ستصل بنا إذا طال أمر الأزمة السورية.
وهذه الحرب الباردة مرشحة لأن تطول أيضاً في ظل ميزان القوى الجديد على الأرض في سوريا لصالح النظام والتغيرات السياسية الإقليمية والدولية، كما أن إلغاء الضربة العسكرية لسوريا، والدعم الروسي اللامحدود لنظام بشار الأسد، واتفاق جنيف النوويّ بين الغرب (5+1) وإيران، كلّها عوامل أدّت إلى إراحة إيران، ووضعت السعودية في مأزق وحالة إرباك عبرت عنه برفضها لمقعد في مجلس الأمن، ورفضها لاتفاق جنيف النوويّ، وإصرارها على تغيير موازين القوى في الميزان السوري.
هذه الحرب المستعرة بين المحورين ستطول وتقصر حسب تغير موازين القوى الذي يعاد رسمه وإعداده في المنطقة، ولن تهدأ الأمور في الحال إلا بمعجزة أو بصدام مباشر ينكفئ فيه أحد الطرفين، أو بحوار عبر عنه وزير خارجية إيران عندما دعا السعودية إلى تقارب وحوار يؤديان إلى استقرار المنطقة، وربما يجنب الدول، ومنها لبنان، ويلات الحروب، ومزيداً من القتل والدمار والدماء. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى تشاؤم وزير الخارجية الإماراتي بزيارة طهران لإعادة تنشيط العلاقات الاقتصادية بين البلدين، وكذلك زيارة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف لدول الخليج لفتح صفحة جديدة من العلاقات، وخلق جو من الودّ، وإنهاء مرحلة القطيعة. وهذا طبعاً مؤشّر إيجابي إلى انهيار استراتيجية العداء لإيران، وسقوط مدوٍّ للمخططات الإسرائيلية. ولا شكّ أنّ هذا المناخ الجديد من الانفراج إذا حصل سيؤدي إلى تسوية في لبنان، الذي أصبح صدى للصراع الإقليمي الدولي.
* أستاذ جامعي