... وماذا ستدرسون في الجامعة؟ سؤال طرح في حوار مع طلاب بكالوريا، تفصلهم أشهر قليلة عن الامتحانات الرسمية وما يليها من موسم الهجرة إلى الجامعات والاختصاصات. من بين عشرين طالباً، لم يتجاوز عدد الذين حددوا توجههم المهني المستقبلي أكثر من أصابع اليد الواحدة! ومن بينهم من كانت إجابته عامة «سأدرس هندسة»...هندسة ماذا؟ أو أكثر من عامة «سأسافر للدراسة في كندا...خالي هناك!»، ماذا ستدرس عند خالك؟
بالطبع لا لوم على طلابنا «المساكين». السؤال الأساس: ما الذي يجعل عملية التعلم ـ التعليم وعلى مدى أربعة عشر عاماً من الجهد وصرف الوقت والمال والآمال توصل المتعلمين، وأهلهم معهم، إلى حيرة وغموض في تحديد التخصص المطلوب؟ ماهي الأسباب والحلول؟
لا بد من التذكير بأن هذه المسألة هي مشكلة عالمية وإن إختلفت مظاهرها ولا تنتمي حصراً إلى مشاكلنا اللبنانية، التي نتوهم انها فريدة من نوعها ونتغنى بتشاؤم أبدي بأنه لا حل لها، ولعل هذا البعد العالمي يرتبط بمؤسسة المدرسة الحديثة، التي وعلى الرغم من إنجازاتها العلمية والتقنية، تواجه تحديات حقيقية وإنتقادات جوهرية في أسلوبها ونتائجها وعلاقتها بالأهداف التربوية والاجتماعية والإنسانية أحياناً وحتى الوطنية والمهنية التي كان يجب أن تحققها. يكفي إطلالة سريعة على قوة التيارات الإنتقادية مثل اللامدرسية، والتعليم المنزلي، وتعليم الفلسفة للأطفال (p.4.c)، والذكاءات المتعددة وغيرها لتصور الواقع.
حسناً، ماذا عن الوضع عندنا؟ هنا يمكن تسجيل الوقائع الآتية:
ـ «كليشهات» تقليدية تمجّد بعض التخصصات «مهندس – حكيم (طبيب)» وهي موروث من زمن قديم ولا تلتفت إلى حاجة سوق العمل بشكل واقعي.
ـ سيطرة للمواد العلمية التجريبية على المناهج مثل الرياضيات والعلوم، وما ينتج عنها من تهميش للكثير من المواد، وبالتالي التوجهات ذات الآفاق الواسعة عملياً وواقعياً.
ـ إصرار على إكمال التعليم الأكاديمي كسبيل وحيد للتعلم والعلم، فيما العالم يشهد على حيوية التعليم المهني والمهارات العملية والمبادرات الذاتية في الفن والتجارة والصناعات الصغيرة وبرمجة الكمبيوتر والزراعة وما شابه
ـ ضعف وغياب كلي أحياناً لتعليم مهارات الحياة في المدارس، ما ينتج جيلاً من المتعلمين أحادي الجانب وذي ضعف واضح في التعامل مع المحيط (مثل مهارات الإنتاج والتفاوض والعمل الجماعي وتحمل الآخر والقدرة على البيان والتعبير والمرونة العملية والتعليم الذاتي واكتساب العمق الفكري)، وآثارها ما نشهد من ظواهر إجتماعية وسلوكية ومشاكل زوجية ونفسية.
ـ يسهم الأهل والمدرسة معاً، وعن غير قصد وبشكلٍ لا واعٍ غالباً، في بث روح اليأس والتشاؤم وإنسداد الأفق العملي أمام الأبناء والمتعلمين وأفضل مثال هو المعلم الذي «يندب حظه لأنه لم يجد عملاً فأضطر لامتهان التعليم، والاهل الذين يمدحون كل صاحب ثروة وقدرة مرددين لازمة «العلم لا ينفع في هذا البلد»، فماذا نتوقع من الأبناء والحال أنه يجب علينا جميعاً أن نقَوي مثلث «الطاقة والأمل والإبداع» لديهم ليكبروا بثقة بالنفس وطموح يغيّر الواقع بدل الغرق في أوهامه وهمومه أو الهروب منه سفراً وجموداً فكرياً وعاطفياً!
ما العمل؟ هل ننتظر تغيير النظام التعليمي؟ أو تغيير المناهج والذي يطالب به الكثيرون وغالباً من دون تصور عن معناه؟
بالطبع لا. الحلول عديدة ومتنوعة، لكن مفتاح العمل والأمل بيد المعلم. المعلمات والمعلمون هم الأقوى والأقدر على توجيه الطلاب وتوسيع أفقهم ومساعدتهم على بناء هوية سليمة وشخصية حيوية. المعلم هو سيد الصف ومدير العملية التعليمية – التعلمية، ويمكنه بعمله المتقن أن يعّلم الطالب «أسلوب التفكير»، فضلاً عن الدرس والمعلومات. المعلّم البصير يتحول الى مربٍ يترك آثار أفكاره ومشاعره وقيمه على مدى عمر المتعلم، ويمكنه أن يبادر إلى فهم عمق المشكلة وفتح الحوارات والأبحاث والعمل مع طلابه في الحلقات المختلفة، ولا نبالغ إن قلنا إنّ معلمي الروضات والصفوف الإبتدائية لهم الدور الأساسي في الحل!
مثلث اختيار التخصص هو التوازن بين «رغبة الطالب» و«قدرته العلمية والعملية» و«الحاجة الواقعية». أما دور الطالب نفسه والأهل والإعلام والجامعات والإدارات التعليمية والقطاعات المختلفة، فيحتاج إلى مزيد من التفكّر والتدبّر.
للتواصل مع الكاتب [email protected]
*أستاذ في كلية التربية في الجامعة اللبنانية